إن شخصية الشيخ تجمع في طياتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغا يجعل من قدرة الباحث – دوما – أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكر من الظروف العرضية النسبية. لقد كان ابن باديس مناظرا مفحما، ومربيا بناءا، ومؤمنا متحمسا، وصوفيا والها، ومجتهدا يرجع إلى أصول الأيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقا غرب عن الأنظار إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي. وهو كذلك وطني مؤمن تصدى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالا عنوانه :"أنا فرنسا" فرد عليه ردا حاميا قويا. والشعور الوطني المتدفق يغدو لديه فيضا شعريا عندما ينظم قصائده التي قدر لها أن تعيد إلى الشعب الجزائري أبعاده الحقيقية في التاريخ الإسلامي في فترة كان أطفال الجزائر يدرسون ويتعلمون تاريخ "أجدادنا الغاليين".
وفوق ذلك فقد كان ابن باديس مصلحا اقترن اسمه وأثره بتاريخ هذا البلد في مرحلة سياسية كانت تعده "للثورة" وفي هذه الكلمة من المعاني أكثر مما تعودنا أن نفهم.
إنه المصلح الذي استعاد موهبة العالم المسلم كما كانت في عصر ابن تومرت بافريقيا الشمالية، فقد كان المغرب يعيش على صورة ما حياة فترة العصر الذي وضعت له حدا نهائيا دعوى مهدي الأطلس المغربي وسيف عبد المؤمن.
نحن نعلم أن عصر المرابطين شهد انزلاق الضمير الإسلامي نحو النزعة الفقهية. لأما ابن باديس فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية (المرابطية والطرقية) دورة المرابطين. وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ولم يستطع المصلح الجزائري أن يطمح إلى تأسيس امبراطورية تحرر الضمير. لقد تغير الزمان، فالإستعمار والقابلية للاستعمار غير كل المعطيات في الجزائر كما فعلا ذلك في سائر العالم الإسلامي. كانت الظروف تقتضي الرجوع في الإصلاح إلى السلف أدراجا: إذ لم يكن القيام بأي عمل في النظام السياسي أو الاجتماعي ممكنا قبل تحرير الضمير.
وكل مذهب الإصلاح الذي تجده في ابن باديس كان لا بد أن يصدر عن هذه الضرورة أو عن هذه المقتضيات الخاصة.
والمبدأ الأساسي القائل: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الذي كان أول خطوة في الإصلاح، يمكن أن يعتبر من زاوية ما ترجمة لهذه الضرورة في صيغة مذهبية.
أريد أن أتكلم عن الافتتاحية التي كانت تورد في مطلع كل عدد من مجلة "الشهاب" تحت عنوان "مجالس التذكير".
كان الشيخ يكتب هذه الافتتاحية دائما، وإنها لأثر العالم الداعية، المصلح الفذ.
ولا يفوتني أن أذكر أنه عندما كان ابن باديس يتغيب عن قسنطينة لسبب ما، كانت المجلة تظهر بدون هذه الفاتحة التي تكون حقا أم كل عدد من أعدادها. ولقد دامت هذه الفاتحة من عدد جانفي (يناير) 1929 إلى عدد جويلية (يوليو) من سنة 1939 على أبواب الحرب العالمية الثانية.
ولكي نستطيع الحكم على أهمية المذهبية والتعليمية يجب أن نحلل مجلسا من مجالسه، ويجب علينا أن لا ننسى بأن الشيخ علاوة على دوره في توجيه الرأي العام الجزائري ، كان كذلك المعلم الذي يدرس في معهد تكون فيه كل قادة تعليمنا الحر، وحتى شعرائنا مثل محمد العيد آل خليفة.
بل إن الشيخ نفسه يقدم هذا التحليل في العناوين الفرعية التي كان يفتتح بها كل مجلس من مجالسه. فتحت العنوان يقدم الموضوعين الأساسيين: الآية – أو الآيات – والحديث موضوعي المجلس، تليهما بعد ذلك العناوين الفرعية الخاصة بكلا الموضوعين. وهكذا نجد على سبيل المثال في عدد جوان (يونيو) 1930 م الآية : {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة 15، 16) وهي موضوع التفسير.
ويستخلص الشيخ من هذه الآية خمسة عشر عنوانا فرعيا كما يلي:
1. أدب واقتداء
2. بأنه لهم، حجة عليهم
3. تمثيل
4. أدب واقتداء
5. نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن
6. محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن نور وبيان
7. استفادة
8. اقتداء
9. الهداية ونعها
10. بماذا تكون الهداية
11. لمن تكون الهداية
12. إلى ماذا تكون الهداية
13. الإخراج من حالة الحيرة إلى حالة الاطمئنان
14. الإسلام هو السبيل الجامع العام
15. الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم.
وإذا طبقنا تحليلنا الخاص على هذا الموضوع رأينا الشيخ قد أمدنا من خلال تفسير هذه الآية بصورة ما بطيف ذاته. فالذي تكلم إنما هو الذاب عن الدين، والناقد الاجتماعي، والعالم المحقق، والمصلح، والصوفي، كل بدوره. ولا يفوتني أن أذكر أن غنى هذه الذات ليس محصورا كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة اللذين بعثا الحياة في فترة من تاريخنا الوطني.
وعلى القارئ أن لا ينسى أن ابن باديس مثقف يعيش مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة. فعندما قام بطبع كتاب "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي (468 هـ – 543 هـ) على نفقته كانت هذه الطبعة – رغم ثغراتها – تأكيدا لشخصية تعمل على الصعيد التاريخي لحضارة ما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : المناهج