ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : قــــال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله"(1)
يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه
الله ، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله ، كما قال
صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر " الراحمون يرحمهم
الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(2)
فرحمة العبد للخلق مـن أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله،
التي من آثارها خيرات الدنيا ، وخيرات الآخرة ، وفقدها مـــن
أكبر القواطع والموانع لرحمة الله ، والعبد في غاية الضرورة
والافتقار إلى رحمة الله ، لا يستغني عنها طرفة عين ، وكل
ما هو فيه من النعم واندفاع النقم ، من رحمة الله .
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها ، فليعمل جميــع الأسباب
التي تنال بها رحمته ، وتجتمع كلها فــي قولــه تعـــالى ( إِنَّ
رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف 56
وهم المحسنون في عبادة الله ، المحسنون إلى عباد الله .
والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم .
والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان :
النوع الأول : رحمة غريزية ، قد جبل الله بعض العباد عليها ،
وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق ، ففعلوا
بمقتضى هذه الرحمة جميع مــا يقــدرون عليـــه مــن نفعهم ،
بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به،
معذورون على ما عجزوا عنه ، وربما كتب الله لهم بنياتهم
الصادقة ما عجزت عنه قواهم .
والنــوع الثـــانـي : رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كــل طـــريق
ووسيلة ، تجعل قلبه على هذا الوصف ، فيعلم العبد أن هـــــذا
الوصف من أجل مكارم الأخلاق وأكملها ، فيجاهد نفسه عــلى
الاتصاف به ، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب ، ومــا فــي
فواته من حرمان الثواب ; فيرغب فـــي فضل ربـــه ، ويسعى
بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل ،
ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية ، قــد عقــــدها الله
وربطها بين المؤمنين ، وأمرهم أن يكونوا إخوانا متحابين ،
وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء ، والعداوات ،
والتدابر .
فـــلا يــزال العبـــد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف
الجليل، ويجتهد في التحقق به ، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة،
والحنان على الخلق . ويا حبذا هذا الخلق الفاضل ، والوصف
الجليل الكامل .
وهــذه الرحمة التــي في القلوب ، تظهر آثارها على الجوارح
واللسان ، فــي السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلـــى
الناس ، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم .
وعلامة الرحمة الموجودة فــــي قلب العبد ، أن يكـــون محبا
لوصول الخير لكافة الخلق عمومـــا ، وللمؤمنين خصوصا ،
كارها حصول الشر والضرر عليهم . فبقدر هذه المحبة
والكراهة تكون رحمته .
ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب ، فــإن كـــــان
حزنه عليه لرحمة ، فهو محمود ، ولا ينافي الصبر والرضى ،
لأنه صلى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته ، قــال لــــه
سعد " ما هذا يا رسول الله ؟" فأتبع ذلك بعبرة أخرى ، وقــال
" هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من
عباده الرحماء " (3) وقال عند موت ابنه إبراهيم " إن العين
تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك
يا إبراهيم لمحزونون " (4) .
وكــذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم ، وإدخال السرور
عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم،
فمن الجفاء والغلظة والقسوة ، كمــا قـال بعض جفاة الأعراب
حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبلون أولادهم
الصغار ، فقال ذلك الأعرابي : تقبلون الصبيان ؟ فما نقبلهم ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوأملك لك شيئا أن نزع
الله من قلبك الرحمة ؟ " (5)
ومن الرحمة : رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كاد
يأكل الثرى من العطش ، فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة .
وضــدهـــا : تعذيب المرأة التي ربطت الهرة ، لا هي أطعمتها
وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت .
ومــن ذلك مــا هــو مشاهد مجرب ، أن من أحسن إلى بهائمه
بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة ، أن الله يبارك لــه فيها .
ومن أساء إليها : عوقب في الدنيا قبل الآخرة ، وقــال تعــالى
( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) المائدة : 32
وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر ، ومـا فـي
قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة ، إذ هو بصدد إحياء كل
من له قدرة على إحيائه من الناس ، كما أن ما في قلب الأول
من القسوة ، مستعد لقتل النفوس كلها .
فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب
من أبواب رحمة الله ، ونحنو بها على جميع خلق الله ، وأن
يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته ، إنه جواد كريم .
كتـــــاب : بهجة قــلـــوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح
جوامع الأخبار(ص169) للشيخ عبد الرحمن السعدي (بتصرف)
....
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ( ك الفضائل ، ب رحمته صلى الله عليه و سلم
الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك ، ص 1268 / ح 2319 )
من حديث جرير بن عبد الله .
(2) أخرجه الترمذي في الجامع ( ك البر والصلة ، ب ما جاء في رحمة
الناس ، ص 1845 / ح 1924 ) من حديث عبد الله بن عمرو ،
وقال الألباني : صحيح .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الجنائز ، ب قول النبي صلى الله عليه
و سلم ( يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه ) ، ص 251 / ح 1284)
من حديث أسامة بن زيد
(4)أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الجنائز ، ب قول النبي صلى الله عليه
و سلم ( إنا بك لمحزنون ) ، ص 254 / ح 1303)
من حديث أنس بن مالك
(5) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الآداب ، ب رحمة الولد وتقبيله
ومعانقته ، ص 1162 / ح 5998 ) من حديث عائشة .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]