كنت في الرابعة من عمري. مسالمًا.. وديعًا.. هادئ الطبع، وكنت موضع عناية الأهل جميعًا وحبهم وتدليلهم، لأنني – كما كانوا يرددون دائمًا – ((آخر العنقود)).. أي آخر الأبناء وأصغرهم. وكنت أسمع أفراد الأسرة كثيرًا ما يرددون في ضيق واشمئزاز وغضب:
- القط الأعور.
- منّه لله.
- ربنا ينتقم منّه.
ولم أكن أعرف سر نقمة الأسرة على هذا القط الأعور المسكين إلا عندما رأيته ذات يوم، وهو ينطلق بسرعة مذهلة، وقد أطبق فكيه على ((كتكوت)) من الكتاكيت التي كانت أمي مغرمة بتربيتها مع غيرها من الدواجن في حظيرة واسعة فوق سطح المنزل.
وأصبح اسم ((القط الأعور)) كابوسًا مرعبًا يقلق مضاجع الجميع. فهو دائم الإغارة على صغار الطيور المنزلية، وما يفعله بدواجننا يفعله كذلك بدواجن الجيران.
ولم أتأمل هذا القط إلا مرة واحدة في حياتي: كان اليوم دافئًا، والشمس مشرقة بعد عدة أيام من المطر المتواصل، رأيته متمددًا على سور سطحنا: كان سواده حالكًا شديد الحلكة، ولكن أقبح ما فيه الناحية اليمنى من وجهه، حيث انطمست عينه اليمنى تمامًا كأنما ولد بعين واحدة، وفوق منطقة العين المطموسة أثر شجٍّ قديم يميل إلى اللون الرمادي، وقد خلا من الشعر تمامًا.
ولم يطل تأملي أكثر من خمس دقائق، بعدها نهض ببطء، وتثاقُل، وتمطى، ثم قفز إلى سطح الجيران.
وذات ليلة، ونحن نتناول طعام العشاء أخذت أمي تتحدث لأبي عن القط الأعور حديثًا طويلاً لم ألتقط أغلبه، ولكني سمعت رد أبي وهو يقول في غضب:
- ليس معقولاً!!... في هذه الحالة.. يبقى قَتْلهُ حلالاً.
وعلمت من أمي أن القط الأعور شن صباح اليوم غارة على حظيرة دواجننا فوق السطح، وكان ضحيته سرباً من ((البط الأخضر)) عدده ثلاثون بطة، ولم يرحم طفولته التي لم تر النور خارج البيض إلا من أسبوع واحد، فالتهم ما التهم، ومات الباقي متأثرًا بجراحه، أو من شدة الرعب.
وسمعت أبي يكرر مقولته وهو يغسل يديه بعد أن انتهى من العشاء:
- شرعًا – قَتْلُه حلال.
فأردفت أمي قائلة:
- منه لله... ربنا ينتقم منه.
- ومن يومها.. وأنا أتمنى أن تواتيني الفرصة للقضاء على القط الأعور، يكون مصرعه على يديّ، فأنال إعجاب والديّ والأهل جميعًا، وتسري شهرتي بين أطفال الحارة، وربما في المدينة كلها.
ومرت عدة أيام لم يظهر خلالها القط الأعور.. ترى هل أحس بما عزمت عليه، فأخذه الخوف، وغادر الحارة، بل الحي كله؟ ووجدتني أستريح لهذا الخاطر...
وعدت أفكر من جديد: أين ذهب القط الأعور، وهو الذي كنا نراه كل يوم منطلقًا من حظيرتنا وبين فكيه فريسة: بطة خضراء... كتكوت... أرنب صغير؟!
وعلى طعام العشاء قال أبي:
- القط الأعور لم يظهر من أسبوع..
- لعل الله قد انتقم منه.
وظهرت مسحة من الارتياح على وجوه الجميع بعد كلمة أمي الأخيرة.. وأردف أخي الأكبر قائلاً:
- يظهر أن ربنا انتقم منه فعلاً.. أنا رأيت جثة قط أسود يشبهه تمامًا... ملقاة على ناصية حارة أم عبده.. وازدادت أمارات الطمأنينة اتساعًا على الوجوه.
ومر أسبوع آخر على غياب القط الأعور... أسبوعان مضيا، ولم يظهر القط اللعين... وكان الجميع يشعرون بالراحة والسعادة لانقطاع شره واختفائه عن الأنظار. أما أنا فقد أخذني شعور بخيبة الأمل، لعدم تحقق أمنيتي التي كنت أحرص على تحقيقها بأن يكون مصرع القط الأعور على يديّ.
ثم كان صباح يوم جمعة لا أنساه أبداً... إذ سمعت صوت أختي الكبرى تناديني من حجرة الضيوف، وفي صوتها رنة فرح، لأنها استطاعت أن تمسك بعصفور دخل الحجرة خطأ، وهي تقوم بتنظيفها وتنظيمها، وعجز عن الخروج بعد أن أغلقت دونه كل النوافذ الزجاجية: ومدت إليّ يدها بالعصفور:
- هدية مني لك.. مبسوط؟ لكن انتبه له حتى لا يطير منك.
وبقدر فرحي بالعصفور كان خوفي أن يفلت من بين أصابعي ويطير. ولكن كيف ألْهو به وهو لا يفارق يدي بهذا الشكل. وراودتني فكرة سرعان ما نفذتها.. حقًا إنها فكرة رائعة: ربطتُ العصفور من رجله في خيط طوله قرابة متر وخوفاً من أن يفلت الطرف الآخر من يدي.. ربطته في عصا أبي من ناحية يدها المعقوفة، ودخلت غرفة الضيوف، وقد أحكمتْ أختي إغلاق نوافذها الزجاجية، وأمسكت العصا الغليظة من طرفها الآخر، وكدت أطير فرحاً، وأنا أرى عصفوري يطير يمنة ويسرة، وهو مشدود إلى الخيط الذي أحْكمتُ ربطه في العصا. كان الوقت يمضي سريعًا، وأنا في سعادة غامرة، وخصوصًا وأنا أرى العصفور يصطدم بزجاج النوافذ محاولاً الانطلاق إلى الحرية، وهو لا يعرف أن الزجاج يحول دون ما يريد، فلما بلغ به التعب مداه حط على الأرض وهو يرتعش في فزع مكتوم.
وفجأة حدث ما لم يخطر ببالي.. رأيت القط الأعور يدخل الحجرة في سرعة مذهلة، وينقض على عصفوري المتهالك، ويطبق عليه فكيه، ولم يعد في يميني إلا عصا أبي وفي يدها المعقوفة الخيط الذي انفصل عنه عصفوري المسكين.. كل ذلك تم في لمح البصر، وبقدر ما أصبت بالفزع للمفاجأة التي لم أكن أنتظرها، لأنني بل الأسرة كلها كنا نعتقد أن القط الأعور في عالم الأموات من أسبوعين، سرعان ما غمرني شعور قوي بالارتياح...
- آه هذه فرصتي التي قد لا تتكرر... القط الأعور سعى إليّ بأرجله.. ليكون مصرعه على يديّ... وأكون بطلاً في أنظار الجميع....
وبحركة عفوية ألقيت بكل ثقلي على الباب، وأحكمت إغلاقه من الداخل ((بالترباس))... هأنذا أواجه هذا الأعور الدميم.. ورن في أذني كلمات أبي ((هذا القط قتله حلال.. حلال شرعًا)).. وشعرت بقوة غير عادية تسري في بدني، فرفعت العصا، وأهويتُ بها على القط، ولكنه أفلت منها ببراعة، وتخلى عن عصفوري الذي كان جثة هامدة.. وهرب القط إلى الزاوية اليمنى البعيدة من الحجرة... ووجهت إلى القط ضربة أخرى لم تصب منه إلا قدمه اليسرى الخلفية، فصرخ صرخة غريبة متحشرجة، ووثب إلى إحدى النوافذ، فاصطدم رأسه بالزجاج الذي اعتقد أنه مَخرَج إلى الشارع لا يمثل عائقاً عن الخروج، وأخذت ألاحقه بضرباتي الشديدة التي كانت تخطئه، وأخذ يقفز في محيط الحجرة.. كان يأتي على محيط الحجرة في قفزتين.. كل قفزة تمثل نصف دائرة.. ثم يسقط على الأرض للحظة واحدة فأهوي عليه بالضربة التي كان يتفاداها بالقفزة الثانية.. تكرر ذلك أكثر من عشر مرات.. وحماستي وقوتي تزداد... لحظات.. وأحظى بالنصر والبطولة في هذا الصراع.. وأخيرًا أصابت عصاي ظهر القط.. وأحسست بالرعب الشديد عندما بدأ يصرخ صرخات هستيرية شديدة...
وتغير الموقف تمامًا.. فقد تحول القط إلى حيوان أسود غريب السحنة.. أعور العين أكبر من القط أربعة مرات على الأقل..
.. وبدأ هذا الحيوان يهاجمني.. وأنا أهرب منه في أركان الحجرة وأصرخ مستغيثًا بصوت مخنوق.. ووثبت إلى الباب.. محاولاً فتح الترباس... ولكن ما كانت يداي المرتعشتان تتمكنان من ذلك.. وسمعت صوت أبي وأمي وأختي الكبرى... خارج الحجرة...
- افتح الباب... افتح الباب بسرعة...
- ما أقدر الحقوني... القط الأعور سيقتلني.
ودفعوا الباب بشدة.. وانكسر الترباس.. وارتميت على صدر أبي... وأنا أصرخ...
- القط الأعور... القط الأعور.
- أين يا بني... لا قط ولا شيء.
ونظرنا جميعًا في كل أرجاء الحجرة... فلم نجد للقط الأعور أي أثر... ولم نجد أي أثر لعصفوري الشهيد.. لم نجد إلا عصا أبي ملقاة في أحد أركان الحجرة، وفي يدها المعقوفة طرف الخيط.
وأخذت أمي وأختي تهدئان من روعي، وانهالت عليّ قبلاتهما الحانية... لم يمض على ما حدث أكثر من دقيقتين.. وفجأة اخترق أسماعَنا صوتُ مظاهرة جماعية يأتي من الشارع المقابل.. ويقترب من بيتنا... وأراد أبي أن ينسيني ما أنا فيه فأخذ بيدي إلى الشرفة الأرضية التي تطل على الشارع..
- ولا يهمك.. لا تخف يا حبيبي – تعالى تفرّج على العيال... وانظر ماذا يفعلون.
كانت مظاهرة من عشرات الأطفال.. كانوا يهتفون هتافات جماعية منغومة:
- قتلوه... قتلوه..
- يستاهل...
- القط الأعور...
- يستاهل..
- ابن الحرمية..
- يستاهل...
- خطّاف الفرخة...
- يستاهل..
- قتلوه.. قتلوه..
- يستاهل..
وتنفستُ الصعداء.. وقد أمسك طفل بذيل جثمان القط الأعور وقد انتفخ بطنه، وهو يسحبه على الأرض بين تهليل الأطفال وهُتافاتهم... إنه هو... هو بعينه العوراء المطموسة... والشج الرمادي الخالي من الشعر فوقها.. ولكني رأيت فوق عينه السليمة أثر دم متجمد.. الحمدلله فقد استراحت أمي واستراح الجيران من شر هذا اللعين.. وإن جاء مصرعه على يد غيري... ولكن طفر إلى ذهني سؤال... هل من المعقول أن يقتل القط بهذه السرعة؟ إنه لم يفر من غرفة الضيوف إلا من خمس دقائق فقط، ثم كيف تكونت هذه المظاهرة بهذه السرعة؟ وكيف تورم جثمانه خلال هذه الدقائق؟.
ولم يقطع تفكيري إلا صوت أبي، وهو يتحدث إلى خالد أكبر الأولاد، وقائد المظاهرة..
- من قتله يا خالد؟
- عم حسن الفران.. قتله بضربة واحدة بحديدة الفرن الساخنة...
ثم واصل كلامه في شيء من الزهو:
- أنا رأيته وهو يقتله لأنه حاول خطف رغيف من طاولة العيش...
- متى حصل هذا؟.
- أمس... بعد العشاء.
وندّت مني صرخة مفزوعة، ووقعْتُ مغشيًا عليّ.