يقول ابن عطاء الله السكندري:”الأكوان ظاهرها غرّة وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرّتها، والباطن ينظر إلى باطن عبرتها”.
كلمة ”الأكوان”جمع كون، والمراد بها المكوّنات، وهي هنا الدنيا، والمعنى الإجمالي السريع لهذه الحكمة أن هذه الدنيا التي من حولنا لها ظاهر سطحي ّ تراه العين وتتأثر به النفس، ولها باطن خفي يدركه العقل المتدبر. فأما ظاهره السطحي فزينة وزخارف تأخذ الأبصار وتغرّ النفوس. وأما باطنها الخفي فمبعث للاعتبار ومصدر للحذر من سوء العواقب، لمن تأملها بعقله ونظر إليها بالعين المتطلعة إلى النتائج.
والمراد بالنفس هنا الغريزة الحيوانية التي نلتقي نحن وسائر الحيوانات العجموات على جامع مشترك فيها.. والمراد بالقلب مهبط الأنوار العلوية، ومهبط التجليات الربانية، وربما تمثل ذلك في العقل الذي هو تجليات الله على الدماغ، وربما تمثل في العضلة التي وراء الصدر، والتي هي معين العواطف و الوجدان.
والدنيا التي تتحدث عنها هذه الحكمة هي ما تجاوز حاجة المسلم في طريقه إلى الله فإذا نال المسلم ما يحتاجه من المعايش وأسبابها للنهوض بما قد كلفه الله به من واجبات وآداب، ثم اتجهت منه المطامع إلى المزيد من ذلك مما لا يتوقف عليه شيء من طاعاته وقرباته الدينية، فهذا المزيد هو الدنيا التي نتحدث عنها الآن في شرح هذه الحكمة.. إذ إن هذا القدرالزائد الذي ليس له أي دور في تقريبك إلى الله لابدّأن يكون له دور كبير في شغلك عنه.
فكل ما شغلك بالله و أعانك في التقرب منه، فهو من الدين أومن ملحقاته، وكل ما شغلك عن الله أو حجبك عنه فهو من الدنيا.
لكن لماذا لا ترى النفس في الدنيا إلا ظاهر غرّتها،في حين يرى القلب منها باطن عبرتها؟
إن النفس (والمراد بها الغريزة الحيوانية) تعيش دائماً فيما تتقلب فيه من شدة أو رخاء، في الحاضر الذي هي فيه، أي فهي فلا تقيم وزناً للزمن المستقبل وما قد يأتي به، ولا لعلاقة الحال الحاضر به، فإذا ذاقت النفس نعيم الدنيا وعاشت منها في زخارفها ومتعها ومشتهياتها، ركنت إلى ذلك كله ولم تبغ عنه بديلاً، ورأت فيه الخير الذي لا عوض عنه، وذهلت في غمرة ذلك عما قد يأتي به الغد، وعن معنى الزمن الممتدّ من الحاضر إلى المستقبل، وعن مدى تأثير الأول في الثاني.
أما القلب فالشأن فيه أنه ينظر إلى الزمن الحاضر من خلال كونه طريقا موصلاً إلى المستقبل، بل من خلال كونه باعثا عليه ومؤثراً فيه، فهو إذ ينظر إلى نعيم الدنيا وزخارفها ومشتهياتها، إنما ينظر إليها من خلال ما ستؤول إليه ومن خلال ما قد تكون سبباً له.
وقد تكونت من مجموع هاتين النظرتين اللتين يتعرض لهما الإنسان،قاعدة لا تشذ،بوسع كل منا أن يدركها وينتبه إليها:
اِحبس نظرك واهتمامك وطموحاتك في الحاضر الذي أنت فيه،تتعشقه مهما كان تافهاً.. وجّه اهتماماتك ورغباتك إلى البعيد، إلى المآلات التي أنت مقبل إليها، تجد أن سائر كنوز الدنيا ومتعها التي من حولك عدت تافهة إلا بمقدار ما تكون سبيلاً إلى تلك المآلات والغايات.
انظر إلى لعبك التافهة التي كنت تتعلق بها وأنت صغير.. إنها اليوم عندك غير ذات أهمية ولا قيمة.. لقد تعلقنا بها كتعلق صاحب الكنوز بكنوزه وحرصه الشديد على رعايتها وحمايتها!والسبب في ذلك أن أحلامنا وطموحاتنا ومداركنا كلها،كانت حاضرة محصورة في تلك الهنات والتوافه الحاضرة والماثلة أمام أبصارنا، كانت تلك دنيانا آنذاك.
هكذا إذن.. كلما ازداد العقل نضجاً واتجه بصاحبه إلى مآل أبعد عاد الحاضر الذي كان النظر محبوسا في أرجائه، تافها رخيصاً لا قيمة ولا جدوى منه، اللهم إلا القدر الذي يمكن أن يتخذ منه سلما لبلوغ طموحاته البعيدة.
إنها قصة رحلة الإنسان في فجاج هذه الحياة، رحلة من مستودع الدنيا إلى مستقر الآخرة..
المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)