السباق إلى الخير تعبير قرآني أُريد به الحث على استجلاب المغفرة والرضوان، ويقابله في السنة تعبير البِدار، والقصد من اللفظين المسارعة نحو أعمال البر، قبل أن تدهم المسلمَ الفتنُ في آخر الزمان، أو قبل أن يُدركه الأجل، وهو يتمنى على الله الأماني، والسباق أو البدار تعبيران يوحيان بضرورة التغلب على التسويف وقهر الزمن، حين يحيل عليهما الكسالى كل مشاريعهم أو آمالهم، والكسل من التحديات التي تمنع الكثيرين من المسارعة إلى العمل، غير أن هناك تحديا آخر قد يدخل ضمنا في التعبيرين المشار إليهما، ويصرِّح به حديث آخر يرتِّب جزاء كبيرا على قهره وتجاوزه.
أخرج الإمام مسلم (4/1982) عن أبي هريرة أن رجلا قال: "يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك." تسفهم الملّ: تطعمهم الرماد الحار
يُعتبر هذا الموقف الذي جرت تزكيته من النبي صلى الله عليه وسلم قمة في العمل الإيجابي، الذي يتحدّى فيه صاحبه عقبة من أخطر العقبات التي تحجز عن الصلة والتواصل، وبخاصة حين يغشى الناسَ مزاج النأي عن "التورط" في أية علاقة إنسانية عادية، من مثل السلام أو الرد عليه، أو البشاشة في التشييع والاستقبال، عندما يمرّ المجتمع بأوضاع تدفعهم إلى الشك في كل شيء، وتُضعف فيما بينهم عنصر الثقة، وحينها يتعذّر تصور فتح ثغرة في جدار هذا المزاج، بمجرد البدار، فضلا عن أن يُقابِلَ أحدهُم الإساءة بالإحسان!
ومن أحسن ما يعبر عن موقف هذا الصحابي ما قاله الشاعر المقنع الكندي-فيما نقله القالي في أماليه (1/133):
وإن الــــــذي بيني وبــــــين بني أبي ... وبين بني عمـــــــــــي لمخـــــتلفٌ جـــــدا
أراهـــــــم إلى نصري بطاءً وإن هـم ... دعـــــــــــوني إلى نصر أتيتهم شــــــدا
فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومــــــــهم ... وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجـــــــدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
يعتقد كثير من الناس أن صلة الرحم هي عملية تبادلية، وأنه إذا بادر أحد الطرفين إلى القطع أو القطيعة فالطرف الآخر يصبح في حل من القيام بهذا الواجب، والأمر ليس كذلك، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري (8/6) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها "
ويذهب بعض الشُّراح إلى أن جدوى الصلة بالإحسان والمداومة عليه حين يُقابَل به القاطع والجهول: سيحقِّره في نفسه، ويشعره بالخزي والعار مما يفعل، ولو بعد حين، وكم من لئيم أو جَحود ألانت قلبَه صنائعُ المعروف، وكثير ممن يُعتقد فيهم الخير لا يصبرون على الأذى، ويسارعون إلى الرد بالمثل أو أكثر، فينتصرون لنفس تتشهى الانتقام، فتقع في حبائل من أساء، ولو قمعوها واحتسبوا الأمر عند الله لذُللت الصعاب، بأوبة عاص، أو توبة شارد، قال الإمام النووي في شرح مسلم (16/115): "ومعناه كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعتهم وإدخالهم الأذى عليه، وقيل معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم، كمن يسف المل، وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك، كالمل يحرق أحشاءهم والله أعلم."
حدثنا جار لنا أنه طلب يوما خدمة من بائع يعرفه، ولا تكاد هذه الخدمة تُعنته في شيء، فرفض أن يستجيب، وذات يوم أسعف صاحبنا الرجل البائع، في خدمة قدمها له دون أن يطلبها منه، فلما التقاه في الغد قال له: يا فلان لم تعرف عيناي النوم البارحة، وأنا أفكر فيما أحسنت به إليّ، بالرغم مما أسأت به إليك !
منقول.