منقول
أيها السادةُ الكرامٌ النجباء.. زارني صديقي النبيهُ بالأمس بعدَ صلاة العشاء.. وبعد أن تبادلنا الحديثَ عن الأحوال.. واطمأننَّا على الأهلِ والعيال.. قال صديقي: هل تعرف جارنا بلال؟
قلت: نعم أعرفُه، فهو من رُوَّاد جامعنا.. ودائماً يحضرُ المحاضراتِ والدروسَ معنا.. فما الذي جرى لَه.. ولِمَ هذه المسألَة؟.
قال: لقد رأيت منه بالأمس مهزلة!.. سمعتُه يشتمُ أمَّه بألفاظٍ قبيحة.. وحاولت نُصحَه فلم يَسْتَجِبْ للنصيحة.
قلت: لا إله إلا الله.. أما يخاف اللهَ مولاه.. أما يخشى أن تُرَدَّ عليه صلاتُه والصومُ والزكاة.. أما يخشى أن يُحبَس عن النطق بالشهادة عند الوفاة؟.
قال صديقي: سبحان ربيَ الله.. وكيف يُحْبَس عن الشهادتين يا شيخنا، بالله؟.
قلت: اسمع أيها الصديقُ الذكي.. للحديث الذي رواه الإمام أحمدُ والطبراني.. عن الصحابي التقي النقي.. عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي رضي الله عنه.. عما رأى وسمع حين كان في مجلس سيدنا النبي صلي الله عليه وسلم .. فأتاه آتٍ قد علاه الكرْبُ والارتياع ..فقال: شاب يجود بنفسه، قيل له: قل: لا إله إلا اللّهُ فما استطاع.. فقال المصطفى المرسلُ بالآيات البيِّنات:.. أكان صاحبُكم مداوماً على الصلوات؟ .. قالوا: نعم، كان مداوماً عليها في كل الأوقات.. فنهض رسول الله صلي الله عليه وسلم فدخل عليه.. فلقَّنه لفظ التوحيد فما استطاع سبيلًا إليه..
فقال صلى الله عليه وسلم: ما شأنه يا عباد الله المؤمنين؟.. قالوا: إنه كان يا رسول الله لأمِّه من العاقِّين..
فأرسل رسول الله صلي الله عليه وسلم إليها.. وعرض برحمتِه الأمرَ عليها.. وقال لها: أرأيتِ يا أمَةَ الله.. لو أجَّجْنا ناراً ضخمةً وفيها ألقيناه.. أكنتِ فيه تشفعين وعنه تصفحين؟.. أم تتركينه في النار ولا تهتمين؟.
قالت: يا رسول الله بل أشفع له وأصفح عنه.. قال: فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيتِ عنه..
قالت: أشهدك وأشهد ربي .. أني قد رضيتُ عن ابني وحِبِّي.
وعندئذ لقنه النبي صلي الله عليه وسلم الشهادتين.. فنطق بهما على الفور، ومات قرير العين.
فقال النبيُّ المصطفى المختار:.. الحمدُ للّه الذي أنقذه بي من النار.**
قال صديقي: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.. عقوقُه لأمِّه ألجمه عن النطق بلا إله إلا الله؟.. فكيف بمن أغضب ربَّه واتبع هواه؟
قلت: ولم لا يا صديق الأثير؟.. ألم تسمع إلى ما قال الشاعر الكبير:
لِأُمِّك حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ كَثِيرُك يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ
فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي لهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ٌفَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ
وَكَمْ غَسَلَتْ عَنْك الْأَذَى بِيَمِينِهَا وَمَا حِجْرُهَا إلَّا لَدَيْك سَرِيرُ
وَتَفْـدِيـك مِـمَّا تَشْتَكِــيهِ بِنَفْسِــهَا وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْك نَمِيرُ
وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْك قُوتَهَا حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ
فَآهًا لِذِي عَقْلٍ وَيَتْبَعُ الْهَوَى وَآهًا لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
ولهذا يا صديقي كان البر بها من أعظم الأسباب.. لدخول الجنة وتيسير الحساب.
فقد دخل النبي العدنان.. الفردوسَ أعلى الجنان.. فسمع قارئاً يقرأ القرآن.. فسأل: فإذا هو حارثةُ بن النعمان رضي الله عنه .. فقال النبي الأغر: ..كذلكم البر.. كذلكم البر..
وكان حارثةُ من أبرِّ الناس بأمِّه.. وقد جعل ذلك شغلَه وغايةَ همه.
قال صديقي: فأيُّ الوالديْن يا شيخَنا الأبَر.. أولى من الآخر بالرعاية والعناية والبر؟.
قلت: قد كان العلماء يقولون بحق:..حقُّ الأم أفضلُ من حق الأب، ولكلٍّ حق.
ولما سئل النبيُّ صلي الله عليه وسلم عن أحق الناس بحسن الصحابة:.. قال: أمُّك ثم أمُّك ثم أمُّك ثم أبوك، فاحفظ هذه الإجابة..
ولهذا قال الإمامُ الحسنُ عليه الرضوان.. للأبِ الثلثُ من البرِّ وللأم الثلثان.
وسئل الإمامُ الطيبُ الذكي ..عامرُ بنُ شَرَاحِيلَ الشعبي:.. هل الأمُّ والأبُ في البر سواء؟.. قال: بل الأمُّ أحقُّ بلا مِراء..
ولما ماتت أمُّ القاضي الذكيِّ إِيَاس.. بكى عليها بصورةٍ أَذْهَلَتْ سائرَ الناس.. فعُوتب في ذلك فقال لمن تكلم في العتاب: ..كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فقد أُغلق منهما باب.
وكان رجلٌ من الصالحين.. يُقَبِّلُ قدمَ أمِّه كلَّ يومٍ وكلَّ حين.. فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه عن سِرِّ الغياب.. فقال: كنتُ أتمرَّغ في رياضِ الجنةِ يا أولي الألباب.. فقد بلَغَنا أيها السادات.. أنَّ الجنةَ تحتَ أقدامِ الأمهات.
قال صديقي النبيهُ الأغر:.. فبِمَ استحقَّت الأمُّ كلَّ هذا الخير والبر؟
قلت: اسمع يا سليل الكرماء.. ما قالت السادة العلماء.. إغْرَاءً عَلَى الْبِرِّ وَتَحْذِيرًا عَنْ الْعُقُوقِ وَوَبَالِهِ.. وَإِعْلَامًا بِمَا يُدْحِضُ الْعَاقَّ إلَى حَضِيضِ سَفَالِهِ.. وَيَحُطُّهُ عَنْ كَمَالِهِ :
أَيُّهَا الْمُضَيِّعُ لِأَوْكَدِ الْحُقُوقِ.. الْمُعْتَاضُ عَنْ الْبِرِّ بِالْعُقُوقِ.. النَّاسِي لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ.. الْغَافِلُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ .. بِرُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْك دَيْنٌ .. وَأَنْتَ تَتَعَاطَاهُ بِاتِّبَاعِ الشَّيْنِ .. تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك .. وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك ..
حَمَلَتْك فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ.. وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ .. وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا.. وَأَطَارَتْ لِأَجْلِك وَسَنًا .. وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الْأَذَى.. وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَا.. وَصَيَّرَتْ حِجْرَهَا لَك مَهْدًا .. وَأَنَالَتْك إحْسَانًا وَرَفْدًا ..
فَإِنْ أَصَابَك مَرَضٌ أَوْ شِكَايَةٌ .. أَظْهَرَتْ مِنْ الْأَسَفِ فَوْقَ النِّهَايَةِ .. وَأَطَالَتْ الْحُزْنَ وَالنَّحِيبَ.. وَبَذَلَتْ مَالَهَا لِلطَّبِيبِ .. وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا.. لَآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا..
هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا .. فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا ..
فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ إلَيْك ..جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك .. فَشَبِعْت وَهِيَ جَائِعَةٌ.. وَرُوِيت وَهِيَ ضَائِعَةٌ ، وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك وَأَوْلَادَك فِي الْإِحْسَانِ.. وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ ، وَصَعُبَ لَدَيْك أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ.. وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ .. وَهَجَرْتهَا وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ.
هَذَا ، وَمَوْلَاك قَدْ نَهَاك عَنْ التَّأْفِيفِ .. وَعَاتَبَك فِي حَقِّهَا بِعِتَابٍ لَطِيفٍ .. سَتُعَاقَبُ فِي دُنْيَاك بِعُقُوقِ الْبَنِينَ .. وَفِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .. يُنَادِيك بِلِسَانِ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ :.. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
قال صديقي الطيبُ الأغر: ..ولكنَّ الولدَ قد يقدم لأمِّه كلَّ بر.. ومع ذلك لا يجد منها الثَّناءَ والشكر.
قلت اسمع يا صاحبي الأبر .. ما أفتى به في هذا المقام الإمامُ ابن عمر رضي الله عنهم.. حين رأى رجلاً عند البيت الشريف ..حاملاً أمَّه على عنقه وهو يطوف.. فقال: يا ابن عمر، هل جَزَيْتُها بهذه المساعدة؟.. فقال: أيْ لُكَعُ، لا والله ولا بطلقةٍ واحدة..
وحمل بعضُ العرب أمَّه إلى الحج على ظهره .. وهو يقول في حُدَائِه وشِعْره :.. أحملُ أمي وهي الحمَّالة .. ترضعني الدِّرَّةَ والعُلَالة .. ولا يُجَازَي والدٌ فِعَالَه.
قال صديقي: لكنَّ بعضَ الأمهات ..ربما استغلَّت ذلك في التفريق بين الأزواج والزوجات.. فهل مجاراتُهن في ذلك من قَبِيل الطاعات؟
قلت: اسمع يا زعيمَّ النُّبهاء.. ما أفتى به الإمامان الحسنُ وعطاء:
سُئِل الحسنُ عن رجلٍ أمرتْه أمُّه أن يطلق امرأتَه،أيسمع لها؟.. قال الحسن: ليس الطلاقُ في شيء من بِرِّها.
وسئل عطاء: عن رجل له امرأةٌ لا ترضى أمُّه إلا بطلاقها.. فهل عدمُ الطلاق يكون من عقوقها؟ .. فقال: لا يطلقُها، وليتق فيهما الله.. فإنْ لم ترضَ أمُّه فلا أرضاها الله..
وكذا سائرُ أوامرِها التي لا حاملَ عليها إلا ضعفُ عقلها.. وسفاهةُ مذهبها وخطأُ رأيها..
قال صديقي: جزاك الخير ربي.. قد تكلمتَ يا شيخنا عن الأم، فماذا عن الأب؟
قلتُ: موعدُنا مع بِرِّه غداً في الصباح.. يا طالبَ البِرِّ والخيرِ والفلاح.
أسأل اللهَ أن يكتبَني وإيَّاك في الأبرار .. وأن يجعلَنا من أهلِ شفاعةِ النبيِّ المختار.. وأن يُعْتِقَ رقابَنا ورقابَ أهالينا من النار.. وأن يُسْكِنَنا الجنةَ دارَ القرار.. إنه وليُّ كلِّ توفيق.. والهادي لأقومِ طريق..
وصل اللهُ الملكُ الحق.. على محمدٍ سيدِ الخلق.. وعلى آله وصحبه أجمعين .. ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
[