تقلّبت العرب في بلاد الحجاز مع الحضارة فكان يغلب عليها في كلّ طور نمط غالب. ومن يستأنس بالقرآن الكريم ليلفينّهم شهدوا أنماطا أربعة للعمران البشري، نمطا رعويا أنجزته ثمود ((قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ )) الشعراء 155، ونمطا زراعيا أنجزته سبأ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)) سبأ 15، ونمطا صناعيا تفوقت فيه عاد ((وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ))الشعراء 129، ونمطا تجاريا غلب على حياة أهل مكة ((لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيْلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ))قريش 1،2.
ومن يستأنس بقراءة السيرة النبوية ليجدنّ أخبارا عن محمّد -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يزال صبيا حين خرج مع عمّه أبي طالب في رحلة إلى الشام يبتغي تعويده على حياة الكسب التجاري، وهي حياة قوامها الرغبة في الكسب ومشقّة الانتقال والمخاطرة في الفيافي، ويومها لقيه الراهب بحيرا في بصرى الشام فأشار على عمّه أن يرجع به مخافة عليه.
والذي نعلمه من التاريخ أنّ محمدا -صلى الله عليه وسلم- برع في التجارة بالخلق الحسن، والسماحة في البيع والشراء والصبر على من يعاملهم، روى القاضي عياض في الشفاء "عن عبد الله أبي الحمساء قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثمّ ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك" ص189.
وفي ذلك مضرب مثل من آداب المعاملة فهو يبيع إلى أجل مسمى حتى لا يشقّ على من يشتري، ويصبر على دين المدين ثلاثا ينتظر، ثم لا يجاوز حدّ العتاب اللطيف بعد طول الانتظار.
ألا إنها أخلاق فطرية تروى عن محمد صلى الله عليه وسلم وتحيا معه قبل النبوة وبعدها، وهو الذي أدّب المسلمين بآداب البيوع وأوجب الصدق فيها، قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"مسلم 1532.
وعرف النّاس في مكة أخبار محمد -صلى الله عليه وسلم- وتناقلوا صدقه وأمانته، وخديجة بنت خويلد تسمع ذلك كلّه وتتمنى أن يرعى تجارتها ويحفظ ما لها. وسيكون لها ذلك وستكون هي كسبه الكبير.
ولو أنّ منظمة التجارة العالمية فقهت المعنى الإنساني في آداب النبوة لجنّبت الحضارة المعاصرة مآسي الليبرالية المتوحشة ولأنقذتها من الرأسمالية المحتكرة، ولو أنّ البلاد الإسلامية احتكمت إلى قواعد الصدق في اقتصادها لأسرعت في نهضتها ولخرجت من كبوتها، ولكنّهم أرادوا أن يتبعوا سنن غيرهم فهم في جحر خرب أضيق من جحر ضبّ.
منقول