تستدرج الظالمَ قوته أو يغويه ماله وجاهه فيصم أذنيه عن قبول النصح، ولا يلتفت إلى معاناة المظلوم، ولا إلى مصير قد ينتهي هو إليه، فإذا ذُكِّر بعاقبة الظلمة لم يعتبر، وإذا أُنذر بأمارات انتقام ماطل أو تحجّج، بل ينكر أن يكون عقوق ولدٍ له عقابا، أو هجران زوجته جزاء، هذا إذا وجد مِن حوله من يتجرّأ على مفاتحته أو مصارحته، والنفس الأمّارة بالسوء واحدة، وإن اختلفت سطوة الظلم بحسب الموقع الذي يُشغل، وتبعا للأداة التي تُستعمل.
أخرج البخاري (5/356) عن ابن عباس أن النبي قال لمعاذ-ضمن وصاياه له-لما بعثه إلى اليمن: "...فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب."
وأخرج الإمام مسلم(8/ 325)عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن أروى خاصمته في بعض داره، فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طُوِّقه في سبع أرضين يوم القيامة، اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بصرها واجعل قبرها في دارها، قال:فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها، فكانت قبرها."
قصص العقاب العاجل لوقائع الظلم الفردية ليست قليلة في كل عصر ومصر، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب اتقاء دعوة المظلوم فيه إشارة لا تخفى بالاستجابة لها في الدنيا قبل الآخرة، غير أن كثيرا من وقائع الظلم قد تخلفت فيها الإجابة، لاستدراج الظُلاّم أكثر إلى الإمعان في المعاصي، حتى إذا أُخذوا لم ينجوا، ولا استطاعوا تخليص أنفسهم من العقاب: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته."(البخاري:14/268)
قصص الإمهال قد تتناول الجموع الظالمة في القرى والبلدات، أكثر من الأفراد، حيث يتمالأ فيها الناس على الظلم، وتقل فيها أصوات الحق والنجدة والإنصاف، ولذلك قرأ النبي صلى الله عليه وسلم-بعد الحديث-قوله تعالى في سورة هود: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الحج: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} إشارة إلى إمهال أطول، قد يمتد إلى يوم الحساب، وقد يكون العقاب دنيويا وأخرويا، وقد لا ينزل بهم عقاب الدنيا أصلا، لكنهم لا يُهمَلون، وكم من طاغية عاث في الأرض فسادا، يحسب أنه قد أفلت أو نجا، لكن الله له بالمرصاد في الآخرة.
والذي يمكن استخلاصه أن عقاب الظلمة قد يتأجّل، وبخاصة في القرى، أو مع الحكام الذين يجدون العون من الرعية أو بعضها، وقد لا يرى المظلوم نهاية ظالمه، لكن يعتبر بها آخرون، وقد ينتهي الظالم بالموت من غير قصاص، ليكون من ضمن المؤجلين إلى يوم تشخص فيه الأبصار، ومن عادة الضعفاء والمقهورين أن تملأ عليهم قلوبَهم الرغبة في الانتقام العاجل، لكن الله يفعل ما يشاء، ساعة يشاء، قال تعالى في سورة العنكبوت: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون. يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وهاهنا إشارة أخرى إلى عدم الاستجابة السريعة لدعاء المؤمنين، لأن الأمر محكوم بالأجل المسمى عند الله، وهذا الأجل الذي لا يُهمل فيه أحد هو المصير المحتوم يوم القيامة، علما بأن معارضي الأنبياء من الظلمة الكبار قد أُمهلوا، لكن العذاب باغتهم في الدنيا، وشُفيت صدور المؤمنين قبل يوم الحساب، ليبقوا عبرة لمن يعتبر، قال الله عن فرعون وجنوده في سورة القصص: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} وقال عن نوح في سورة العنكبوت: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} فلم يعاقبوا إلا بعد أكثر من تسعة قرون، بالرغم من تميّز الصفوف بين الحق والباطل، أما حين يقع الظلم بين المسلمين حيث يكثر التأويل وتُدّعى المظلومية بين الأطراف المتنازعة، فإن الأمر قد لا يُحسم إلا في ساحات القضاء الأخروي.
منقول