أثبتت القرون الماضية، وما شاهدته من أحداث وخطوب ومن حروب وسلام، أن الإسلام الحنيف دين جميع البشر، لأنه شامل لمطالب الروح والجسم، ويلبي نداءات العقل والقلب في الحاضر والقادم، وقد دعا إلى كل خير ومنفعة وفضيلة، ونهى عن كل شر ورذيلة، وذلك لرعاية التماسك بين كافة الفئات الاجتماعية، والمفهوم القريب للكذب الذي يدمر المروءة والعلاقات، أنه الإخبار عن الأشياء والقضايا والألوان والمعاملات، بخلاف ما هي عليه في الواقع والحقيقة، ومن الدواعي إليه التغطية على بعض النقائص أو تحصيل المنافع.
قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} ولما كانت من مقاصد الشريعة الإسلامية وقاية المجتمع الإسلامي من الشرور والمفاسد المهلكة، فقد أوضحت –الشريعة- أضرار كثيرة وحذرت من نتائجها، وأرشدت المؤمنين الصادقين إلى تلافي الوقوع في مخالبها ومتاعبها المرهقة، ومن تلك الشرور والمفاسد الكذب الذي يناهض الصدق ويعادي الاستقامة، ويدل على خلل في توازن الشخصية الفردية والاجتماعية، والكذب من المثالب التي نهى عنها ديننا الإسلامي نهيا ملحا، لماذا؟ لأنه جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عاقبته المؤلمة، ولأن صاحبه يسقط في أعين الناس فيكفون عن تصديقه ويتخلون عن الثقة في معاملاته والتجارة معه. قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}(النحل:105)، وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة" وقال أحد الحكماء: إن الكذب لص، ولكن اللص يسرق مالك، أما الكذب فيسرق عقلك".
وقد تطورت حياة الإنسان فتقاربت البلدان، وتداخلت أطرافها ومصالحها، وتكاثرت معاملاتها، وتنوعت فهناك تجارة وصناعة وزراعة، وهناك بيع وشراء ورهن وشراكة وإجارة..وينظم ديننا الإسلامي هذه الاتصالات والتفاعلات تنظيما فعالا ومحكما، إذ يجعل لها قواعد انضباطية، وينذر الخارجين عليها بالعذاب الأليم، وهذا الجانب يمثل القوة الكامنة في الإسلام، والتي ترسل أشعتها آناء الليل وأطراف النهار، لتضيء السبيل أمام المؤمنين ولاسيما حيث تهب ريح الأزمات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وتشتد عاصفة الاعتداءات على الفضائل الأخلاقية، بهذه الحجة أو تلك، بهذا التبرير أو ذاك، ولو كان لا يقنع أحدا من الذين لهم عقول يميزون بها الأسود والأبيض..أليس الاحتكار والغش وإخفاء العيوب في السلع والبضائع نوعا من الكذب الصارخ الذي يعلن عن وجوده؟ وفي الإرشاد إلى التخليص من سيطرة دوافع عاطفة الكذب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تحروا الصدق، وإن رأيتم فيه الهلكة، فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة" وتتجلى ظواهر الكذب في المواقف المختلفة منها استعذاب الحديث، واستعراض الطرائف المسلية والأساطير الترفيهية، ومنها التشفي من الأعداء بذكر المثالب والنقائص التي تخترع أحيانا اختراعا، ولذلك يرد الشرع شهادة العدو على عدوه، لما قد يكون فيها من التزييف والتزوير، ومنها تسلط التعود على الكذب الأمر الذي يجعل التخلي عنه عسيرا، وفي ذلك قال حكيم: "من استحلى رضاع الكذب يصعب فطامه عنه" ومن ألوان الكذب مخالفة الوعد الذي يعتبر من أشد مضار الكذب لأنه يبين ضعف الشخصية، ويسبب فقدان الثقة وإضاعة الأوقات الثمينة، كما أنه يغرس الحقد، ويعتبر من علامات المنافقين الذين يظهرون ما لا يخفون، ويعلنون خلاف ما يضمرون في كافة الميادين، والخيانة تعد من أشنع الكذب باعتبارها لا تختص بصاحبها فقط أي الذي خان عن روية وقصد وإصرار، ولكن مضرتها تمتد إلى أفراد المجتمع المحافظ على معالم الصدق فيما يأتيه من السلوكات، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}(النساء:107)، ومن أشكال الكذب شهادة الزور والنميمة وهما من أفظع العوامل التي تفضي إلى المنازعات والعداوة، وتنشر الخصومات والفوضى، وسوء الظن بالجميع ولذلك يقول تعالى سبحانه:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ}(القلم:10/11). وكذلك فمن ضروب الكذب الذي يدمر المروءة والروابط الاجتماعية والعلاقات البناءة بين الناس، البهتان الذي معناه النيل من الإنسان في شرفه أو مهنته أو أخلاقه، بما يصيبه بالأضرار الأدبية أو المادية أو هما معا، وفي هذا الموقف ارتكاب لذنوب الظلم، لأنه بعيد عن الصواب والحقيقة وبعيد عن التحري والإنصاف والمروءة.
ومن الملاحظ أن الكذب الذي يراد به ومنه إصلاح بين الناس أو دفع خطر أو تحقيق منافع بعيدة عما يسيء لا حرج فيه ولا عذاب بل مرغب فيه لأهميته، وهذا الموقف بيان ساطع عما في ديننا الإسلامي من مرونة وانسجام مع الأحداث المتجددة، والوسائل المخترعة والسبل الممهدة بعناية، لهذا فإلى الترفع عن الكذب تحسن الدعوة ويجمل التوجيه، ويطيب الكلام، وفي هذا الموقف حرص على تجنب كذب يدمر المروءة والعلاقات الاجتماعية.
منقول