إن للغة تأثير عجيب في سلوك الإنسان فرداً كان أو جماعة، ولعلّ من أهم المذاهب والتيارات الفلسفية التي انتبهت إلى ذلك وعكفت على دراسته، الفلسفة الوضعية المنطقية حيث بينت لنا أنّ الألفاظ والمصطلحات التي ننحتها، تصنع لنا عوالم تأسرنا بداخلها،
وإن لم يكن لها وجودا في الواقع الحي المعيش، وذلك راجع إلى أنّ اللغة تتدخل في تنظيم الفكر وتوجيهه فهي متلبسة بالفكر، ملتصقة به، فأنت لا تستطيع أن تفكر بعيداً عن اللغة وبمعزل عنها، فأنت وإن أطبقت شفتيك تجد نفسك تتكلم، وذلك لأن التفكير هو في حد ذاته ربط بين الألفاظ ومعانيها، ووضع للكلمات مقابل ما تعنيه، وتشير إليه، كما أنك تحتاج إلى اللغة لا للتعبير عن أفكارك فحسب، بل لترتيب هذه الأفكار وصياغتها في النسق الذي يجعلها قابلة للفهم من قبل الآخرين، ويعطيها القدرة على التأثير فيهم على النحو الذي تريده وتطمح إليه، من إقبال عليها، أو نفور منها وارتداد عنها، وذلك لأنها منبهة للمشاعر، مثيرة للعواطف، وهذا ما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنّ من البيان لسحرا"، وهو عين ما جعله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنّ من الكلمة الطيبة لصدقة" وهو نفسه الذي دعاه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يقول: "إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم" وذلك راجع إلى أن الألفاظ التي نسمعها والكلمات التي تطرق آذاننا تثير أحاسيسنا وتحرك مشاعرنا وتدفعنا إلى هذا الموقف أو ذاك، أو التصرف على هذا النحو أو ذاك، بمعنى أننا قد نسمع كلمة فتحرك فينا أسباب الغضب ودواعيه، وقد نسمع أخرى فتثير فينا الإحساس بالارتياح بعد الضيق والهدوء بعد الثورة، يؤكد ذلك أن ابن سنا الطبيب الفيلسوف الوزير اختلف مع أحد الرقاة فقال له: "ما بالكم تكذبون على النّاس وتلبسون عليهم لتأكلوا أموالهم بالباطل فتزعمون لهم أنكم تستطيعون شفاءهم من أمراضهم بألفاظ تخطونها وكلمات تكتبونها، نبذل الجهد في الكشف عن أسباب المرض والتماس العلاج مناسب له وتركيب الدواء المؤثر فيه؟ فرد عليه صاحبه على الفور: وما أدراك بهذا يا حمار؟ فأغضب ذلك ابن سينا وبلغ به الغضب مداه، عندها قال له صاحبه: هون عليك إنما أردت أن أثبت لك أن الكلمة التي تخرجك عن طورك قادرة على أن تعيدك إليه".
ولا شك أن هذا ما يفسر ذلك التأثير الخطير الذي يقربه الجميع للإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيهه الوجهة التي يتفق عليها السياسيون والإعلاميون، وهو نفسه ما يفسر ما يتعرض له بعض الصحافيين هنا وهناك من تضييق عليهم، أو اضطهاد لهم، أو تخلصا منهم بالموت، من قبل بعض الأنظمة، لأنهم يوظفون اللغة توظيفاً يحمل الناس على الانحياز لهذا الطرف دون ذاك، وتأييد هذا الطرف على ذاك.
وهذا ما جعل السياسيين يدركون أهمية اللغة، فيعمدون إلى توظيفها توظيفاً يخدم مصالحهم، ويحقق أغراضهم، فراحوا ينحتون لنا ألفاظاً، ويصوغون لنا كلمات، بتنا أسرى لها، ولا نملك فكاكا منها، من قبيل يميني يساري، ومحافظ وراديكالي، ورجعي وتقدمي، فصارت تلك الألفاظ والكلمات تحدد مواقفنا من بعضنا البعض، وتفرض نفسها علينا، فتوجهنا إلى سلوك هذا المسلك أو ذاك، يشهد لهذا أنّ الغرب استطاع عن طريق المصطلحات التي نحتها وألقى بها إلينا أن يجعلنا نتنكر لثقافتنا وحضارتنا وننقلب على عقيدتنا نفسها، كمصطلح الإسلاموي، ومصطلح الإرهاب، ومصطلح الإسلام المتشدد، ومصطلح الإسلام المعتدل، وما إلى ذلك من المصطلحات الآثمة، التي ترمي أكثر ما ترمي إلى تشكيل نظرتنا إلى الآخر، ودفعنا إلى أن نتخذ منه موقفا يخدم مصلحة الغرب، أكثر مما يخدم مصلحتنا نحن، وهاهم اليوم يركزون على مصطلح الشيعة والسنة ويكثرون من ترداده وذلك بغية فرض تشتيت الأمة الإسلامية وتقسيمها إلى معسكرين متنافرين، حتى لا تلتقي لهم كلمة ولا يجتمع لهم صف أبد الدهر، فهلا انتبهنا لهذه المصطلحات الآثمة وعملنا التصدي لها ومقاومتها...
منقول