لقد تخرج من مدرسة النبوة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، نشروا الإسلام عقيدة وشريعة، وحملوا لواء الدعوة الإسلامية، فدخل الناس في دين الله أفواجا، واستطاعوا خلال فترة وجيزة أن يهزموا أعظم إمبراطوريتين، فكانت القادسية وفيها الانتصار على الأكاسرة، وكانت اليرموك وفيها الانتصار على القياصرة، وعندئذ طأطأ لهم الجميع إجلالاً واحتراماً.
هؤلاء الرجال هم الذين بنوا النهضات، وصنعوا الحضارات، وكوّنوا أرقى المجتمعات، ومن المعلوم أن الرجال كالإبل في كل مائة راحلة، والرجل صاحب الهمة يحيي أمة.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عُمَّار المساجد من الرجال المؤمنين بقوله:{
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}(1)، وكذلك في قوله
تعالى:{...
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(2) .
وليست الرجولة ببسطة الجسم والقامة فقط، كما في قوله تعالى: {
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}(3)، فقد ورد في الحديث الشريف: أنه يُؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يَزِنُ عند الله جناح بعوضة، كما في قوله تعالى:{
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}(4).
إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الإسلام لا يُفضل الرجال من خلال الجنس أو اللون، أو الغنى أو الفقر، لقوله – صلى الله عليه وسلم - :(
إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ )(5)، وإنما يُفضلهم بما فضّل الله به بعضهم على بعض، وهو ميزان التقوى، لقوله تعالى:{
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(6).
* فبلال بن رباح -رضي الله عنه- صحابي جليل، واسمٌ يُحبه المؤمنون ، وصوت تعشقه آذان الموحدين، فهو –رضي الله عنه- من أهل الجنة، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – شَهِدَ له بذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لبلال – رضي الله عنه -: (
يَا بِلالُ: حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ)(7)، فقد كان – رضي الله عنه – خفيف الجسم، ممشوق القامة، أسود اللون، وهذه قضية لا قيمة لها ولا وجود لها في الإسلام.
* وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – صحابي جليل، كان من السّابقين الأوّلين في الدخول في الدّين الإسلاميّ الحنيف، وكان – رضي الله عنه - قصيراً جداً بالنِّسبة للقياس الجسدي؛ ولكنّه كان عملاقاً في مقياس العطاء والعمل، ويؤيِّد ذلك ما جاء في كتب السيرة أنَّ ابن مسعودٍ صعد شجرة ليأتي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشيء منها، فنظر أصحابه – رضي الله عنهم – إلى دقة ساقيه فضحكوا منها، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - :(
لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُد)(8).
أمنية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
إن بناء القصور وتشييد البروج أمرٌ سهلٌ عائدٌ إلى المهارة في فن العمارة، ولكن: ما أصعب بناء النفوس، فإن بناء النفوس وتشييدها على أساس الحق، وتزكيتها بالصلاح والطّهر، مطلبٌ عظيم وغايةٌ عليا وهدفٌ من أعزّ الأهداف، لا يَقْوى عليه إلا من أخلصوا دينهم لله، فقد ورد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقف في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول لبعض الصحابة: ليذكرْ لي كلٌّ منكم أعظمَ شيء يتمناه، قال أحدهم: أتمنى أن يكون لي مثلُ أُحدٍ ذهباً أُنفقه في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن يكون لي مِلءُ المدينةِ خيلاً أغزو به في سبيل الله، وقال ثالث: أتمنى أن يكون لي ألفُ عبدٍ أعتقهم ابتغاء مرضاة الله، وأخذ كلٌ منهم يذكر ما يتمنى، وأمير المؤمنين يدير النقاش بينهم، ثم توجهوا إليه قائلين: فماذا تتمنى أنتَ يا أمير المؤمنين؟ قال عمر – رضي الله عنه -: أتمنى مِلْءَ هذا المسجد رجالاً أمثال أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -!!
لقد أصبتَ كبد الحقيقة يا أمير المؤمنين، فلو وُزِن إيمان أبى بكر – رضي الله عنه – بإيمان الأمة، لرجح إيمان أبي بكر على إيمان الأمة.
* فأبو بكر الصديق – رضي الله عنه –: هو أول من آمن بالرسول – صلى الله عليه وسلم – من الرجال، والثاني معه في الغار، ومعه في الهجرة ، وهو أول العشرة الذين بشرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالجنة، وهو أول من أخرج جميع أمواله كلها في سبيل الله، وأسلم على يديه عدد من الصحابة السابقين، ويكفيه – رضي الله عنه - شهادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له، حيث قال– صلى الله عليه وسلم -: (
إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ، وَصُحْبَتِهِ: أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ)(9)، وقوله – صلى الله عليه وسلم– أيضاً: (
إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ)(10).
رجال سطَّروا صفحات مشرقة في التاريخ
عندما نقرأ كتب السيرة والتاريخ نجد صفحات مشرقة، تبين مكانة الرجال الذين تربوا في مدرسة النبوة، منها:
* عندما حاصر خالد بن الوليد – رضي الله عنه - الحيرة، طلب من أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - أن يُمدّه بمَدَدٍ، فما أَمدَّه إلا برجل واحد، هو القعقاع بن عمرو- رضي الله عنه -،
وقال: لا يُهزم جيشٌ فيه مثله.
* وكذلك عندما عزم المسلمون على فتح مصر التي بشرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بها، فاتجه إليها عمرو بن العاص – رضي الله عنه – بجيش كبير، ولكن عندما وصل إلى مشارف مصر رأى كثرة عدد الروم، فطلب عمرو بن العاص- رضي الله عنه - مَدَداً من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -، واستجاب عمر – رضي الله عنه – لرأي عمرو – رضي الله عنه- وكتب له:
(أما بعد: فإني قد أمددتُك بأربعة آلاف رجل، على كل ألفٍ، رجلٌ بمقام ألف، إشارة إلى كفاءة المقاتلين ومهارتهم وصدقهم وشجاعتهم، وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد- رضي الله عنهم أجمعين-)(11).
ومن المعروف في تاريخ الرجال أن الهمم الكبيرة تُدَوّخ أصحابها، وأن القلوب الحية تُكلف الأجساد ما لا تطيق، ولذلك قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبتْ في مرادها الأجسام وقد ورد في الحديث النبوي الشريف قوله - صلى الله عليه وسلم - :
(لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ مِثْلِهِ إِلا الإِنْسَانُ)(12)، وفي هذا قال الشاعر:
والناس ألفٌ منهمو كواحدٍ وواحد كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَا!هؤلاء هم الصحابة الكرام، والرجال الفضلاء، الذين يجب علينا أن نحبهم، وأن نسير على دربهم، وأن نقتفي أثرهم، ومما يُؤسف له أن بعض الناس يتطاولون في هذه الأيام على الصحابة الكرام، ويقولون: إنهم رجال ونحن رجال، نقول لهم: الحديد معدن، والذهب معدن، وشتان ما بين الذهب والحديد، فعلينا أن نعرف للصحابة الكرام فضلهم، كما قال الطحاوي -رحمه الله تعالى –:
"ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ولا نُفرِّط في حبّ أحد منهم، ولا نتبرأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"، -رضي الله عنهم أجمعين -.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- سورة النــور الآية(36-37).
2-سورة التوبة الآية (108).
3-سورة المنافقون الآية (4).
4-سورة الكهف الآية (105).
5- أخرجه مسلم.
6-سورة الحجرات(13).
7- أخرجه البخاري.
8- أخرجه الحاكم والهيثمي.
9- أخرجه البخاري.
10- أخرجه البخاري.
11- رجال أحبهم الرسول وبشرهم بالجنة ص282 12- أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.
منقول