{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.
أولئك: اسم إشارة يعود على هؤلاء الذين اجتمعت فيهم صفات النفاق فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كأنهم حاضرون أمام السامع فيشار إليهم، وهذا استعمال في كلام البلغاء يكثر وروده، ولا يدل على قرب ولا على بعد.
الذين اشتروا: فعل اشترى معناه هنا باع، ومعنى البيع يقتضي آخذا وباذلا، فكأن كل منهما بائعا ومبتاعا، وباع منظور فيه إلى معنى البذل، وابتاع منظور فيه إلى معنى الأخذ، وأخطأ بعض اللغويين حين ظنوا أن فعل شرى يستعمل بمعنى اشترى، وفهموا ذلك من قوله تعالى:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف /20)، وتوهموا أن الضمير عائد على الذين أخذوه من المصريين، ومعناه في الحقيقة واضح قريب في جماعة السيارة أي والقافلة(وجاءت سيارة) يوسف/19، ومعناه باعوه، ويدل على ذلك قوله تعالى:{ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
أما الذي اشتراه فليس زاهدا بل كان من الراغبين فيه، ويدل على ذلك قول العزيز لامرأته:(أكرمي مثواه) يوسف/21.
وإطلاق الاشتراء هنا مجاز يدل على الحرص على الشيء، والزهد في ضده، فهم حرصوا على الضلالة وزهدوا في الهدى، فهم لم يستبدلوا شيئا بشيء لأنهم لم يكونوا مهتدين حتى يسعوا للهدى.
ويجوز أن يكون المعنى كما ذهب إلى ذلك الزمخشري في الكشاف استبدال الضلال بالهدى واختيارها عليه على سبيل الاستعارة، لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر، ولأن الدين القيم هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فكل من ضل فقد استبدل خلاف الفطرة، أو كما قال ابن عاشور أنه شبه اختلاطهم بالمسلمين وإظهارهم الإيمان كذبا بحال المهتدي، وإذا خلوا إلى أمثالهم من المنافقين طرحوا تلك الحال واستبدلوها بحال الضلال، وفي هذا التركيب:(الذين اشتروا) قصر المسند وهو (اشتروا) على المسند إليه وهو "الذين" قصرا ادعائيا، ويدل ذلك على أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها، فجمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين.
ومعنى الضلالة: التنبيه عن القصد، وفقد الاهتداء، واستعير للذهاب عن الصواب في الدين وعن الرشد إلى الغي.
فما ربحت تجارتهم: أنهم اشتروا ما يضر ولا ينفع، وبذلوا ما ينفع، فلا جرم أن يكونوا خاسرين، ويتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين، وعبر عن هذا بعد ذلك بقوله: (وما كانوا مهتدين)، ولم يقل: ما اهتدوا، لأن ما كانوا أبلغ في النفي ليشعر السامع أن انتفاء الهداية عنهم أمر متأصّل قديم متمكن فيهم باعتبارهم أن فعل كان يدل على اتصال اسمها بخبرها منذ الماضي.
والربح: الزيادة على رأس المال، ونجاح التجارة فيبيع التاجر بضاعته بأكثر مما اشتراها به، وحصول الرغبة في بضاعته أكثر فيحصل له مال زائد على رأس ماله.
والتجارة على وزن فعالة يدل على الصناعة ويعني اشتراء الأشياء قصد بيعها بثمن أوفر مما اشتريته، وأكثر ليكسب من ذلك الوفرة.
ونفي الربح في هذه الآية فيه تشبيه حال المنافقين عند قصدهم النفاق أن يكون غاية لهم يرجونها، فاختفت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين خسروا في تجارتهم، وأسند الربح إلى التجارة لا إلى التاجر، لأنها سيد الربح على سبيل المجاز العقلي.
ومعنى:(وما كانوا مهتدين) أي الهداية بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الشرعي حتى لا يتكرر المعنى، لأن اشتراء الضلالة بالهدى هو عدم الاهتداء، ونفي الاهتداء معناه أنهم لم يحصلوا على ما قصدوا إليه، وأضاعوا ما سعوا له، مما يدل على فساد رأيهم، وهذا يجري مجرى العلة لعدم ربح تجارتهم، فقد شبه سوء تصرفهم في كفرهم بسوء تصرف من يقصد إلى الربح فيقع في الخسران، لأن من لم يكن مهتد، فإنه يضيع الربح ورأس المال أيضا لفساد سلوكه وفقدان الصواب في رأيه، ونحن نجد أمثال هؤلاء المنافقين في مسالكهم المعوجة وفساد سلوكهم إلى اليوم سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو في الدين.
إن ما نراه من فساد فاضح وانتشاره، سببه خراب الضمير، وضعف الوازع الأخلاقي ووهنه.
إن الله سن لنا قاعدة حفظا للأموال وجعله حد الشريعة الرئيسية، وذلك في قوله تعالى:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة /188).
إن العدالة يجب أن تقوم بواجبها مستقلة عن كل ضغط من التحالف بين بعض أصحاب السلطة وبعض أصحاب الأموال، وهذا التحالف هو الكارثة إذا تمكن في المجتمع ولم تقتلع جذوره، إذا سد القضاة هذا الباب ولم يستمعوا إلا إلى ضمائرهم وتطبيق القانون فإن ذلك هو حقيقة استقلال القضاء.
منقول