بقلم الشيخ: يوسف القرضاوي
من أهم ما حدث في شهر رمضان المبارك، ما فاجأنا وفاجأ العالم كله من حدث، اهتزت له القلوب طربًا، وابتسمت له الثغور فرحًا، ولهجت به الألسنة ثناء، وسجدت الجباه من أجله لله شكرًا·
إنه الحدث الذي عوضنا عما فُوجئنا به من قبل في الخامس من حزيران 1967م، والذي خسرت به الأمة ما خسرت، وكسبت إسرائيل ما كسبت، وضاعت به -إلى اليوم- القدس والضفة والقطاع والجولان، إضافةً إلى سيناء التي استردتها مصر فيما بعد·
وهذا الحدث الذي أحيا الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بل الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، هو حرب العاشر من رمضان (10 رمضان 1393هـ/ 6 أكتوبر 1973م)· وأنا أحب دائمًا أن أسميها معركة العاشر من رمضان، وليس السادس من أكتوبر؛ لأن (شهر رمضان) ونفحاته وبركاته وإمداداته التي هبت نسماتها على الجنود والصائمين والمصلين كان له أثره في تحقيق النصر، وإمداد المقاتلين بشحنة إيمانية دفعتهم إلى البذل والفداء، أما (أكتوبر) فليس له أي إيحاء، أو دخل في هذا النصر·
ألا ما أحلى مذاق النصر، وخصوصًا بعد تجرع مرارة الهزيمة المذلة من قبل! وللأسف طالت هزائم الأمة في معارك شتى، وذرفت الدموع كثيرًا على هزائمها، حيث لم تغنِ الدموع، وآن لها أن تجد مناسبة تفرح بها بعد حزن، وأن تضحك بعد طول بكاء·
لقد عبر الجيش المصري القناة، صنع قناطر أو جسورًا للعبور عليها، مكونة من أجزاء، تُركب في الحال، ويوصل بعضها ببعض، فتكون جسرًا فوق الماء تعبر فوقه المصفحات والمجنزرات والدبابات إلى البر الآخر، وقد بدأ بالعمل فيها منذ سنوات، ثم بدأت تجربتها، والتدريب عليها منذ شهور، في تكتم وسرية بالغة، وهذا عمل مصري خالص، لم يشترك فيه خبراء أجانب؛ ولهذا حُفظ السر، ولم يبح به أحد·
بعد عبور القناة بسلام وأمان ونجاح، اقتحمت القوات المصرية ما عُرف باسم خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل؛ ليكون حاجزًا ترابيًّا بعد الحاجز المائي، وكانت العدة قد أعدت لتخطيه بإحكام ومهارة·
وكان كل شيء مُعدًّا بجدارة وأناة وحكمة، ولم يكن هناك شيء مرتجل، وقام كلُّ سلاحٍ بدوره: سلاح المهندسين، وسلاح الفرسان والمدرعات، وسلاح الطيران، كلٌّ قام بما هيئ له، وما كلف به·
وقد اختير التوقيت المناسب لبدء المعركة، وكان رمضان هو الوقت الملائم نفسيًّا وروحيًّا؛ لما يمد به الجنود من نفحات، وما يعطيهم من شحنة روحية، وكان أكتوبر مناسبًا، من حيث المناخ، وليس فيه حرارة الصيف، ولا برد الشتاء·
وكان الوقت مناسبًا من ناحية أخرى أنه يوم الغفران، أو عيد الغفران عند اليهود، فلننتهز غفلتهم وانهماكهم في الاحتفال بالعيد؛ لنفاجئهم بضربتنا، كما فاجؤونا بضربتهم في يونيو 67·
ولا يقال: كيف نباغتهم ولا ننذرهم؟ فمثل هذه الحرب لا تحتاج إلى إنذار ولا إبلاغ؛ لأنها حرب دفاع للمحتل، وهي مستمرة معه لم تتوقف·
وأهم من هذا كله: الروح المعنوية التي كان يحملها المقاتل المصري·· إنها روح الإيمان؛ الإيمان بالله تعالى، وأنه ينصر من نصره، والإيمان بأننا أصحاب الحق، والحق لا بد أن ينتصر، والباطل لا بد أن يزهق {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]·
فرق بين حربين !
حرب يونيو 67 النكسة وفرق كبير بين هذه الحرب وحرب يونيو 67، فقد كان العنصر الإيماني والروحي مغيبًا عنها تمامًا؛ لذلك لم يحالفها النصر·
كانت كلمة السر في حرب 67: (بر بحر جو)، ولكن الواقع يقول: إنهم لم ينتصروا في بر ولا بحر ولا جو، ولم يكن الذنب ذنب الجيش وجنوده، ولكن ذنب القادة الذين جروهم إلى حرب لم يخططوا لها، ولم يعدوا لها العُدَّة، ولم يأخذوا لها الحذر، كما أمر الله·
لقد ترك الجنود أسلحتهم، وتركوا دباباتهم ومصفحاتهم، لم يحاولوا أن يشعلوا فيها النار بعد أن تركوها، حتى لا يغنمها العدو ويستفيد منها، لأن همَّ كل واحد منهم كان هو النجاة بنفسه، واللياذ بالفرار·
لقد اعتمدوا على الآلات، فلم تغنِ عنهم الآلات، واتكلوا على السلاح فلم ينجدهم السلاح؛ لأن السلاح لا يقاتل بنفسه، إنما يقاتل بيد حامله، ويد حامله إنما يحرِّكها إيمان بهدف، وإيمان برسالة، وهذا لم يعبأ به الجنود·
فلا عجب إن كانت الهزيمة الثقيلة المذلة في 67؛ فهذه نتيجة منطقية لمقدمتها، كما قال العرب: إنك لا تجني من الشوك العنب· وصدق الله إذ يقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58]·
وكان من ثمرات محنة 67: أنها أيقظت في الناس المعنى الديني، والضمير الديني، والرجعة إلى الله، وبدأت حركة إيمانية قوية في القوات المسلحة، وكان الحرص على إقامة الصلاة، وقام وعَّاظ الأزهر بدورهم في التنبيه والإحياء، وكان هناك شعور عام بالحاجة إلى الله، والدعاء بنصر الله، فلا غرو أن كان شعار المعركة (الله أكبر)·
منقول