[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]من تاليف: سعاد خرموش
عام:2008
قام من مقعده، أطفأ سيجارته، وأحكم معطفه الثقيل على جسده ولف جريدته تحت ابطه ثم غادر الطاولة تاركا صمته الثقيل يملأ المكان...
هذا المكان الذي طالما طرب لهمسات العشاق وسامر أحاديث الفنانين والمبدعين ولجأ له البسطاء والمترفين...
مكان لا يؤمن بالطبقية ولا الفوارق الاجتماعية ولا الناس مقامات...
كم من الاشخاص عرف هذا المكان...كم من الاسرار حفظ بداخله...دموع هي بعمق البحار انسكبت بين زواياه...وضحكات ساذجة تعالت بأجوائه...
لكن اليوم لم يعد هذا المكان قادرا على تحمل المزيد، فقد صلابته وتماسكه، تزعزعت اركانه وتقوضت معالمه، فجدرانه تكاد تهوي لكثرة الشقوق التي غلفت العقول
والثغرات التي بددت النفوس وغمرتها قسوة وبلادة...
من جديد قصد المكان طيف آخر ويبدو ان مظهره مختلف بعض الشيء عن الآخرين...إذ جعل يختال بين جنباته ونظراته المستعلية تزيد المكان حقارة وخطواته
الصلبة المتماسكة تعذب أرضيته الهرمة...
انزوى في احد اركاته يتامله بنظرات ثاقبة فوقع بصره على دقتر صغير فوق رف متواضع إلى جانب الباب...
سحبه بلطف وجعل يقلب اوراقه المهترئة فلفت اتباهه قائمة اسماء لبعض الأشخاص لا يعرفهم...
وربما يكون قد سمع عن بعضهم...والملفت في الامر ان معظم هؤلاء اكل الدهر منهم وشرب حتى لم يبق منهم الا أجسادا تئن ونفسا ضعيفا متقطعا.
استوقفه اسم يبدو مألوفا لديه...آه انه الشيخ عمران صاحب الزاوية القرآنية التي تتوسط حي المجاهد...حقا انه شيخ نبيل ومعطاء، لم يتاخر يوما عن تقديم
المساعدة لاحد، ولم يتوان عن ابداء النصح للناس. لقد قال لي يوما:"سيد خليل، نحل على هذه الدنيا ضيوفا فالتحسن ادب الضيافة...لقد كان شيخا ورعا، وتقيا،
لطالما فضل بين المتحاكمين، وصالح بين المتخاصمينن وقرب المتباعدينن وأعان المحتاجين
.
تحته مباشرةاسترعى انتباهه اسم آخر...انه الأستاذ مصطفى معلم اللغة العربية صاحب السبعين عاما...هو الآن يملك مكتبة صغيرة يمضي فيها ما تبقى من
عمره...وهي مكان لحلقات الدرس أيضا، اذ يتوجه اليه طلاب العلم من كل صوب للاستزادة من علمه ومعرفته وخبرته بالحياة، فكم تتلمذ على يديه من ادباء
وباحثين...
لقد ارهقته الافعال وشيبته الاسماء واستبدت به الحروف ورغم ذلك يعشقها ويصر على اقتناص كل جديد في اللغة والادب.
تابع السيد خليل القراءة فوقع بصره مجددا على احد الاشخاص الذين قد لا نحس بوجودهم ولا نسمع عنهم الا عندما ننوي تقديم المساعدات والتبرعات...لم يكن
عبد الكريم رجلا ذا بال فلم يكن ثريا ليعرف في الوسط الارستقراطي ولا من البسطاء والعامة الذين تستهوينا أخبارهم في المجالس والاجتماعات، لقد كان رجلا
فقيرا أو قل معدما ادا اكل ليوم فايام طويلة يبقى دون طعام. لكن كان رجلا قانعا، لم يتوسل الناس لحاجة، ولم يشكو يوما، وكان يقدم المساعدة دون مقابل
.
لكن ما الذي اتى به الى هنا حتى ليذكر بين هؤلاء.
لقد كانت قائمة الاسماء طويلة جدا وكان لاغلبهم حكاية تروى وذكريات تسرد.
يا ترى من سيذكر السيد خليل...ماذا خلف وراءه غير حياة اللهو والبذخ والترف والامبالات، حياة تحفها الكؤوس وطاولات القمار من كل جانب...استبداد
وسيطرة وتملك، لم يتوان يوما عن شراء اي شيء حتى النفوس وآخر شيء ان اشترى هذا المكان المهجور ليستبدله بصالة للمجون والفسقن هذا ما كان يفكر به السيد خليل.
وهكذا استحال حلم السيد خليل في هدم هذا المكان لمآربه الشخصية الى هباء منثور، زالت معها الغمامة التي كانت تعمي يصيرته.
هي لحظات غارقة في الزمن ادرك من خلالها عمر هذا المكان...وحدة هذا المكان...بل شحوبته التي باتت تميزه عن غيره واخيرا ايقن ان ارتباط الانسان
بالمكان هو ما يجعل للمكان قيمته الحقيقية بل جوهره الكامن فيه...وان الحلقة المفقودة من حياته هي ذكرياته التي لم يعد يذكر منها شئا.
واخيرا وجد نفسه الضائعة...جمع شتات افكاره...لملم اوراقه المبعثرة في فوضى الاحلام المتناثرة والاماني المتكسرة...
مزق قناع العجرفة والتصنع...استسلم للفطرة الألاهية التي جبلت عليها نفسه... وهامت نفسه تستجدي الشفقة والحنان خارج هذا المكان ليغدو كغيره ممن وطات
اقدامهم هذا المكان