الرحيم
القدس بين ماضٍ عظيم وحاضر أليم ومستقبل مشرق
الحياة خضم كبير تتلاطم فيه الأمواج، والناس فيها يغالبون هذه الأمواج العاتية، فمن ثبت لأعاصير الزمن سما، ومن لفّه الزمن بردائه أصبح في طي النسيان.
هي القدس التي تقف شامخة تلاطم موج بني صهيون، الناظر إليها يرى تاريخاً عظيماً حافلاً بالذكريات التي تبعث المجد إلى النفس كما تبعث الريح أنفاس الخزامى .
هي القدس التي ما زالت تضيع في الزحام، تموت ألف مرة في العام، لكنها كما عهدناها ستفجّر الفولاذ في أوردة الظلام . هي ربيبة المدائن بعد مكة والمدينة، تئن من المستعمر، فما بال أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين تُصمّ الأذان عنه ؟
تتعرض القدس منذ ستين عاماً لأعتى هجمة شرسة في تاريخنا الحديث، إذ يتم قلع أهلها و تشريدهم، ويتم تهويد المدينة حتى غاب عنها الشذا ، وكل أندائها جفت سواقيها وأصبح الطّور يبكي أصحابه . أوليست هي الحسناء عروس المدائن حتى يدفع مهرها غالياّ؟
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
أصُمت الآذان بعد المعتصم وصلاح الدين؟ أين أضواء النشاشيبي والسكاكيني التي كانت تصدح في جوانبها ؟ نعم لقد تقطّع قلب القدس، واختفت روح الصفاء فيها ، لا أحد يجيرها ، دبّ ترابها أصناف شتى من الصهاينة، أما أبناؤها فهم محرومون منها ،ومن الصلاة في مسجدها الطاهر، لله درّك يا شوقي حين قلت :
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس .
وللقدس مكانتها المرموقة بين مدن العالم، فهي مهبط الأنبياء، وملتقى الرسالات، و مسرى رسولنا الكريم عليه السلام إذ قال تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" ، وهي مهوى أفئدة المسلمين إذ تمثل عقيدتنا الإسلامية السمحة .
أما إذا نظرت إلى آثارها العظيمة، فحيثما أرسلت طرفك، أو نقّلت خطاك وجدت حجرا يكلمك، أو أثرا يلهمك ، أتدري كم مرة طلعت علية الشمس؟ وكم نظرة نظر إليه الناس؟ وكم سالت علية دماء الشهداء؟ أوليست هذه الآثار دليل حضارة أبائنا وأجدادنا المسلمين ؟
أمة العرب ، إنّ القدس أمنا الرؤوم منها نستمد عزيمتنا، أرضعتنا حباً وعشقاً ، ألم تكن كما قال الشاعر:
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا
هيّا أمة العرب كي تعيدي للقدس عزتها ، وتعيدي حقاً سُلبت حريته ، وديست كرامته وهضمت حقوقه .
ليس عاراً أن تطأ قدم الدخيل القدس الطيبة، وإنما العار كل العار إن نتركها تستقر، وتعيث في البلاد فساداً، قال تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ". فالعار كل العار أن يتسرب الوهن إلى العزائم ، ويستحوذ اليأس على النفوس، وينقلب الرجال الشجعان إلى جبناء، وتصبح هاماتهم مطأطئة على أقدام الغزاة، وتحبو أمامها كما يحبو الطفل الذي لم يقو على الوقوف !.
قدسنا العزيز لا أقول إلا كما قال الشاعر :
وقد يطول السرى لكن أخره
فجر يعيد إلى الفصحى معانيها
ويورد الأحرف الظمأى مواردها
لعلها تغتدي والماء يرويها
فالحق قوة جبارة من قوى الديّان تسخر من الظالمين الطغاة، وتمهلهم قليلاً، ثم تسحقهم ، وتجعلهم وكأنهم لم يكونوا، فمهما طال الليل فأن خيوط الفجر قادمة لا محال .