ثلاث خصال دالة على وجود الجهل
يقول ابن عطاء الله السكندري: “من رأيته مجيباً عن كل ما سئل، ومعبراً عن كل ما شهد، وذاكراً كل ما علم، فاستدل بذلك على وجود جهله”
ثلاث علامات إن اجتمعن في إنسان، كان ذلك دليلا قاطعاً، فيما يقرر ابن عطاء الله، على وجود جهله.
ولعلَّ كل خصلة منهما، كافية في الدلالة على جهل صاحبها، ولكن يبدو أن الحيطة في الحكم حملت ابن عطاء الله على أن يعدّ الجهل ثمرة لاجتماع هذه الخصال كلها في شخص واحد.
أما الخصلة الأولى منهما، فهي أن ترى الشخص لا يتردد في الإجابة عن كل ما يُسأل عنه..ووجه دلالتها على جهل صاحبها.أن َّالاستفهام يتعلق بقسم المجهولات، أما الجواب فلا يتناول إلا قسم المعلومات ومما لا ريب فيه أن مساحة المجهولات أوسع بكثير من مساحة المعلومات، وصدق القائل: “وما أُوتِيتم مِن العِلم إِلاَّ قليلاً”(الاسراء).
فمن رأيته يجيب، أي جواب العارف، عن كل ما يُسأل عنه، فاعلم أنه يغطّي جهله بدعاوي المعرفة والعلم..
والذي يدعو كثيراً من الناس إلى ذلك هو الاستكبار!..يرأب أحدهم أن يُنعت بالجهل، فيستعيض بدعواه اللسانية العريضة عن الاستيعاب المعرفي الذي لا سبيل له إليه.
فلو لم يكن من آفات هذا التعالم إلا الاستكبار، لكفى ذلك إجراماً في حق العلم ومصدره، فكيف وإن من آفاته الكذب وخيانة الحقائق، والاستخفاف بقوانين الكون وكلمات المُكوِّن؟
على أنَّ الجهل المتعالم يهون خطبه، عندما تستعمل له بضاعة الدنيا، وعندما يكون الخلط والخبط، في مسائل يتقارب فيها كل من وجهي الصحة والبطلان، والخطأ والصواب..
ولكنه داء لا دواء له، وخطب لا عزاء معه، عندما تكون مادّة هذا الجهل المُتَعَالِم حقائق دين الله الذي بعث به سائر الرسل والأنبياء، متمثلة في مبادئه الاعتقادية آناً، وأحكامه الشرعية آناً آخر.
بحيث أنك لو تجاوزت مجالات العلوم الدنيوية المختلفة التي لا يتكلم فيها إلا أهل الإختصاص، وأقبلت إلى علوم الإسلام وشرائعه، رأيت نفسك أمام ما يشبه كلأٌ مباحاً أو سفحا مفتوحا يجوب فيه الرائح والغادي، دون رسم لحدود أو اعتماد لضوابط!..
وأما الخصلة الثانية، فهي أن ترى الرجل يروي للناس كل ما شهده، إذ لو لم يكن جاهلاً، لعلم أن الأمانة تقتضي أن يمسك عن الحديث عن أكثر ما قد يراه. إذ كثيراً ما يكون الشيء الذي رآه ثم رواه، عائداً إلى خصوصيات بعض الناس، سواء أكان خيراً يحمدون عليه أو شراً يلامون عليه..إن نشر أخبارهم، على الحالين، فلا يحل إلا بعد التأكد من ذلك، على أن احتمال عدم الرضا في الحالة الثانية أكثر منه في الأولى.
إن ما قد تراه من خصوصيات الناس، لصُدفة أو لمناسبة ما، سرّ من الأسرار التي أودعها الله عندك إبتلاءً..وإن ما قد يصادف أن تراه من مشكلات أو خصومات، بين اثنين قد يكون دعوة من الله لك أن تكون الطرف الثالث الوحيد معهما، لتسعى سعيك لإنهاء خصومتهما، وأنَّ ما تقع عليه عيناك من معصية ابتلي بها أخ لك، أمانة كلَّفك الشرع بصونها عن أسماع الناس بعد أن صانها الله عن أبصارهم ، فالواجب الذي يأمرك الله به أن تمد رواق الستر على أخيك هذا، وتنفرد معه في نصيحة خالصة محبّبة..والعلاج الكلي لهذا الداء هو ضرورة تزكية النفس وتطهير القلب من الأمراض الخفية التي سماها الله، باطن الإثم.
أما عن الخصلة الثالثة التي تدلّ على جهل صاحبها، أن يتحدث للناس عن كل ما علم من شأن نفسه أو من الشؤون الأخرى.
أما عما يعلمه الإنسان من شأن نفسه، فهو إما أن يكون من الشؤون الصالحة التي وفقه الله إليها، أو من الأخطاء التي تاه فوقع فيها.
فإن كان من الصالحات التي وُفق لفعلها، فإن أيقن أنَّ العامل هو الإعلان عن شكر الله على توفيقه، وعن عظيم فضل الله عليه حتى يكونوا شهداء على مِنَنِه التي تتوارد إليه، دون أن يكون أهلاً لها، فالعلم إذن يقتضي الحديث عنها، عملا بقوله تعالى: “وأمَّا بنعمةِ ربِّك فحَدِّث”
وإن ارتاب في هذا الدافع، وغلب عليه الظن أنه مدفوعٌ إلى التحدث للناس بها، تنويها لهم بشأن نفسه، وإعلاناً لهم عن حسن حاله، ليعظم في نفوسهم، أو لتعود إليه منهم المنح، أو ليرفعوا من شأنه في المناسبات وبصدد الأنشطة الاجتماعية، فالعلم يقتضي أن يتكتَّم على ذلك، وأن يَسْدِل فوق أعماله الصالحة ستراً فوق ستر، لتبقى سراً مكنوناً بينه وبين ربه..
والحديث عن الخطأ إذا كان بقصد المباهاة فهو شر ّ من أصل الخطيئة التي ارتكبها، بل ربما سرت المباهاة بالمعصية، بصاحبها، إلى الكفر في بعض الاحيان.
وإذا كان الحديث عن الخطأ بدافع الألم والشكوى فذلك من الجهالة بمكان!..لأن الذي ينبغي أن يتجه له بالألم والشكوى واحد لا ثاني له، هو الله عز وجل، والمسلم كما هو مأمور أن يستر آخاه عليه أن يستر السوء الذي صدر من شخصه هو..
المرحوم الشيخ سعيد رمضا ن البوطي
( بتصرف)