يقول ابن عطاء الله السكندري: ”من أكرمك فإنما أكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك، ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك”.
ليس فينا من لا ينتبه إلى هذا اللطف الذي يعامل به الرب عباده، لو تأمل في واقع حاله وفيما يعرفه هو من نفسه من نقائص وعيوب، ثم عاد فأصغى إلى ما يقوله الناس عنه وتأمل فيما يعرفونه من الفضائل والمكرمات.ولو عرف الناس منك ما تعرفه أنت من عيوبها ونقائصها وسوء حالها، لم تجد فيهم من يلتفت إليك بأي مكرمة أو اهتمام ولرأيتهم جميعا يكرهونك وينفضّون عنك، ولو عرفت أنت أيضا منهم ما يعرفه كل واحد منهم عن نفسه وعيوبها، لاتخذت منهم الموقف ذاته، وعندئذ تنفك عرى التواصل والتعاون بين الناس، إذ يكره بعضهم بعضاً، وتسود الجفوة فيما بينهم بدلاً من الألفة والتعاون.
ولكنك علمت أن الله حكيم ورحيم، فقضى أن يكون الإنسان مدنياً واجتماعياً بطبعه..ولا يتأتى ذلك إلا إن قرأ كل واحد منهم في صفات الآخرين فضائلهم ومزاياهم الحميدة، وغيبت عنهم نقائصهم وصفاتهم المرذولة، فمن أجل ذلك مضت هذه السنة الربانية قانوناً في النَاس جميعا، لا يستثنى من عمومها إلا أولئك الذين لا يسْتخفون بعيوبهم بل يستعلنون بها ويجابهون بها الآخرين في استخفاف ولا مبالاة..وأنت تعلم أنه يدخل في هذا الفريق من الناس من يتخذون من صفاتهم المرذولة وسائل لإيذاء الناس أو غشهم والكيد لهم في المعاملات بل حتى في كثير من المصادفات.والحقيقة أن هذا الفريق من الناس لم يخرجهم الله من عموم قانونه وسنته في الناس، ولكنهم هم الذين أخرجوا أنفسهم من كنف الله وستره، عندما استعلنوا بعيوبهم وآفاتهم النفسية بين الآخرين، بالكيد لهم وسوء التعامل معهم، والتباهي.بما قد ركب فيهم من العيوب وسوء الحال، إذن فهذه السنة الربانية الماضية في الناس لا خلف فيها لدى التحقيق.
وإذا تبينت لك هذه الحقيقة، فضعها دائماً في ذاكراتك وإياك أن تستسلم لشيء من عوامل نسيانها.
فإن أنجزت هذه الوصية فلن تغتر إذن بإكرام أحد من الناس لك أو بثنائه عليك ومدحه لك، ولسوف تعلم وأنت تصغي إلى ثنائه ومديحه، أنه إنما يثني على جميل ستر الله لك، إذ لولا ما قد أكرمك الله به من ستر قبائحك وعيوبك من الناس، لما التفت أحد منهم إليك بأي اهتمام أو اكتراث، فضلاً عن أن يكرمك بالثناء عليك وتدبيج عبارات المديح لك.
واعلم أنك ما دمت على ذكْرٍ من هذه السنة الربانية التي تفضل الله بها على عباده، فلن تخدع بمدح المادحين لك وثنائهم عليك، بل سيبعثك ذلك على مزيد من الخجل من مولاك الذي يعلم ما استكن وما خفي من حالك، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم يبعثك ذلك، أي مدح المادحين لك على الاستغراق في حمد الله والثناء عليه، أن ستر عن الناس القبيح من خصالك، وهي كثيرة ونشر بينهم أنباء الحميد منها، وهي قليلة.
ولكنك إن حجبت نفسك عن عيوب ذاتك أو تجاهلتها وتغافلت عن وجودها، فإن إكرام الناس لك بالثناء عليك سيكون مصدر فتنة لك..ولسوف يدعوك مديحهم المتكرر لك إلى تصديقهم فيما يقولون، فتقع من جراء ذلك في مصيبة العجب والغرور، وتزداد بذلك عيوبك وأخطائك. والذي يرمي إليه ابن عطاء الله رحمه الله من هذه الحكمة، هو أن على المسلم أن يعلم دائماً أنه بؤرةٌ للنقائص والعيوب والأخطاء، ولكن الله تفضلا منه ولطفاً، ستر تلك البؤرة بغشاء من المزايا والصفات الحميدة، على أن تلك المزايا التي ستر الله بها عيوبه إنما هي غطاء الله وفضله فليحمد الله دائماً على نعمتي ستره للقبائح، وتفضله عليه بالتوفيق لبعض الفضائل، وإذا صادفه من راح يثني عليه لما يرى فيه من تلك المزايا التي أكرمه الله بها، فليزدد حمداً لله أن ستر عن عباده قبائحه وجاد عليه بالصفات الحميدة التي أكرمه بها، وجعل له منها غطاء لتلك القبائح وسبب ستر لها.
وهذا هو شأن عباد الله الصالحين دائماً، مهما مُدحُوا على ألسنة الناس، فإن المدح لا يزيدهم إلا شعوراً بالضآلة والذل لله عز وجل، ولا يذكرهم إلا بمزيد فضل الله عليهم، بل إنهم لا يجدون المدح أو الثناء منصرفاً في حقيقته إلا إلى الله تعالى إذ هو صاحب الفضل كله وهو وحده الممدوح بصفات الكمال.
وقد روي عن أبي يزيد البسطامي أنه كان إذا رأى الناس ازدحموا عليه في مجلسه وقد شدهم إليه الحب والثقة بصلاحه، أقبل إلى الله يقول: اللهم إنك تعلم أنهم يقصدونك أنت، ولكنهم وجدوني عندك.
إن هذا الذي أوضحته لك بعيد كل البعد كل البعد عن عقيدة الحلول(التي يقول أصحابها أن الله تجلى من خلالهم) فهو مظهر لوحدة الشهود والفناء عن الذات، وذلك بإحالة كل ما فيها من مظاهر الحَوْل و القوة والملك والفاعلية إلى الله وحده، ومن ثم فإن المصطبغين بهذا الشعور يرقون بذلك إلى أعلى درجات التوحيد، ولا يرون في أنفسهم، مهما تقلبت بهم الأحوال، إلا صفة العجز والذل والفقر.
وأصحاب هذه الدرجة الباسقة من التوحيد، يعاملون الناس في الظاهر، ولكنهم إنما يتعاملون دائماً مع الله في حقيقة الأمر وما تكنّه مقاصدهم وضمائرهم، فهم يرون الناس في الظاهر ولكنهم يتعاملون من خلالهم مع الله في الباطن..وكم هي دقيقة وجامعة، تلك الكلمة التي اشتهرت عن الإمام فخر الدين الرازي: ”كن ظاهراً مع الخلق، وباطناً مع الحق”.إن مَرَدَّ الفضل كله يعود إلى الله وهو وحده الذي يستحق الحمد والشكر على كل نعمة وعطية.
المرحوم الدكتور سعيد رمضان البوطي
بتصرف