يقول ابن عطاء الله السكندري:”غيّب نظر الخلق إليك بنظر الحق إليك، وغب عن وجود إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك”.
المسلم أياً كان مدني بطبعه كما قالوا، ولا تستقيم حياته بدون علاقات اجتماعية تسري بينه وبين فئات الناس على اختلافهم.
ومردّ ذلك إلى احتياج الإنسان في كثير من شؤونه إلى معونة الآخرين من أبناء جنسه، وإلى احتياج كثير منهم إليه، ولهذا البيان المجمل تفسير طويل الذيل، لسنا بصدد الدخول فيه في هذا المقام.
إذن فالإنسان في أكثر الحالات واقع تحت النظر والمراقبة من الناس، لشدة العلاقة السارية بينه وبينهم.
ومهما انطوى أو ابتعد عن انظارهم، مختليا مع نفسه، منصرفاً إلى شؤونهالخاصة، فإن سائر أنشطته وتقلباته من وراء ذلك، واقع تحت ملاحظة الناس ومراقبتهم كما قلت لك.
وأكثر الناس يحسبون لهذه المراقبة والملاحظة من الآخرين حساباً كبيراً، ومعظم هذه الكثرة من الناس، يقع من ذلك في حرج كبير وعنت شديد، إذ يحاول أن يفوز برضا الله عنه وعن مختلف تصرفاته وشؤونه، فلا يتأتى له ذلك، لأن رضا الناس-كما قالوا غاية لا تدرك. ويحاول أن يغيب عن أبصارهم، ويتخلص من مراقبتهم له واطلاعهم عليه، فلا يتأتى ذلك أيضاً له، للسبب الذي قد ذكرته لك.
فما العلاج إذن؟
والعلاج هذا الذي يقوله ابن عطاء الله:أن تتناسى نظر الخلق إليك بعين المراقبة لك والملاحقة لشؤونك وأحوالك، متذكرًا رقابة الله لك بعين اللطف والحماية، وبعين المتابعة والنقد، وبعين التوفيق والستر.
لأن المؤمن بالله لابد أن يكون على يقين تام بمعنى قول الله تعالى:”وَمن يتوكَّل عَلَى الله فهو حَسْبُهُ”(الطلاق).وقوله عز وجل:حكاية عما قاله الصفوة من عباده عندما جاء من يخوفهم من مراقبة الكافرين لهم وتوعدهم إياهم:”حسبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوّكِيل”(آل عمران)ولابدَّ أن يصطبغ اصطباغاً تاماً بنصيحة المصطفى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس:”..واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك”.
فإذا كنت موقناً بهذا الذي قاله الله عز وجل، ومصطبغاً بالحقيقة التي أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تقيم وزناً لرقابة الناس لك، أمام نظر الحق جل جلاله إليك، بل ستغيب عن معنى نظر الناس ومراقبتهم لك بمراقبتك لله وشهودك له، وهل لمراقبة الناس لك من قيمة أو معنى أمام ما ينبغي أن يهيمن عليك من نظر الحق إليك ومراقبته لك؟!
وعليك أن تتذكر أن الوجود الحق وجود واحد لا ثاني له، وهو وجود الله تعالى، وكل ما سواه فإنما وجوده به لا معه.. فأي قيمة تبقى لما تتوهمه من نظر الخلق إليك ومراقبتهم لك بعد ذلك..؟!
ثم إن هذا الذي ينصحنا به ابن عطاء الله، يعالج مشكلة اجتماعية كبيرة، كانت ولا تزال راسخة متحكمة برؤوس أكثر الناس عامة.. إذ أنها تضرب جذورها في عمق مجتمعاتنا العربية والإسلامية..
بحيث ظهرت كثرة كبرى من العلماء والمرشدين، يرقبون في أعمالهم وانشطتهم نظر الخلق، ويتصنعون لبلوغ رضاهم، واتقاء نقدهم وغضبهم.
تلك هي المشكلة ولا حل إلا بدوام مراقبة الله، أي بشهود مراقبة الله له.. وإذا هو متحرر من جاذبية الأفلاك البشرية كلها، مهما علوا أو نزلوا، وعندئذ يقف من الدنيا فوق المنبر الذي أقامه الله فيه، يلاحظ من الناس كلهم دون تميز ولا تفريق، غائباً عن وجود إقبالهم إليه، بشهود دوام إقبال الله عليه..
إنه في هذه الحالة مهما رأى من بوارق الخير والمعروف، أيدها ودعا إليها ويسّر مزيدا من السبل إليها، أياً كان مصدر هذه البوارق.
ومهما رأى ظلل الشر والمنكرات حذر منها ونصح بالابتعاد عنها، أياً كان مصدرها هي الأخرى..
واعلم أن من غاص في بحار التوحيد حجب عن الناس، وعن أطماعه فيهم وتحرر من خوفه من مراقبتهم له، فهان عليه أن لا يهتم إلا بمراقبة الله له وألاَّ ينشد إلا رضاه عنه..
المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
بتصرف