إذا كان الله تعالى يحيي الأرض بعد جدبها وقحطها وموتها بالغيث، فإنّه كذلك يحيي القلوب القاسية بالقرآن الكريم، إذا اهتدت به، واستضاءت بنوره. وهذا ما أمكن ذكره في ظل قوله تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
أما قوله تعالى –قبل هذه الآية-{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} فأقل ما نقول فيها أنّ آلافًا وآلافًا من الناس سمعوها في الليل أو في النهار فلم تثر فيهم أيَّ إحساس، ولما سمعها من هبّت عليه نسمات الإيمان في لحظة من لحظات العناية، هزّته، وفجّرت أعماقه نورًا مبينًا، فكان أن تحوّل نهائيًا من حياة إلى حياة، وانتقل من عهد إلى عهد، وفي هذا المضمار قصص مثيرة وصور عجيبة، نسوق لك –أيّها القارئ الكريم- بعضها للعظة والعبرة.
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره قصة عبد الله بن المبارك عن بداية زهده، وقال: "سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، فقال: كنت يومًا مع إخواني في بستان لنا وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال راشين السَّحَر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان –يعني العود الذي بيده- ويقول:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} قلت: بلى والله، وكسرت العود وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي وتشميري.
وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
ألم يأن لي منك أن ترحما
وتَعْصِ العواذلك واللوَّما
وترثى لصب بكم مغــــرم
أقام على هجركم مـــأتما
يبيت إذا جنّه ليلــــــــه
يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبى لو أنه
أحل من الوصل ما حرَّما
ولم يكن ابن المبارك وحده الذي أقلع عن حياة اللهو بسبب هذه الآية:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} بل هناك أيضا الفضيل بن عياض وهاك –قارئي الكريم- قصته كما أوردها القرطبي أيضا: كان سبب توبته أنّه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فرجع القهقري وهو يقول: بلى والله قد آن! فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إنّي قد تبت إليك وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام!.
منقول