القصد من هذه الوقفة أن نتبين ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن شبّ عن طوق الطفولة ودرج إلى الشباب واحدا من بني قومه يحنو على فقرائهم ويحترمه كبراؤهم، يحنو على ضعيفهم ويهابه أقوياؤهم.
وحين أرادت وصفه الكاتبة كارين أرمسترونج قالت عنه:" كان محبوبا في مكة، كان وسيما متناسق الجسد متوسط القامة وكانت ابتسامته ساحرة ...كان حاسما مخلصا في عمله ويلتفت بكامله لمن يكلمه ولا يسحب يده من المصافحة حتى يسحبها الآخر. وثق الناس فيه حتى سموه الأمين"ص37.
هي أشارت إلى خلال أخلاقية مثل (الابتسامة والاخلاص والاقبال والمصافحة) قد يحسبها بعض هينة، ولكن الكاتبة جعلتها مفاتيح لمعرفة الأعماق النفسية لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم وهي الأمانة.
وإنّ التفات الكاتبة إلى هذا المعنى يحيل إلى فهمها بأن حضارة الانسان يهدد بقاءها انغماسها في الجبروت والكذب، لذلك سمّت كتابها "محمد نبي لزماننا".
فهل كان وحده الأمين في قومه؟ وهل كان وحده المخلص في عمله؟
لا تعدم الفضائل الأخلاقية من يجسدها في كلّ المجتمعات وهي فيهم أخلاق حسنة، ولم تعدم مكة رجالا صادقين ونساء طاهرات: فقد كان أبو طالب ذلك خلقه، وكان ورقة بن نوفل ذلك خلقه، وكانت الطاهرة خديجة ذلك خلقها... ولكن أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم جاوزت الحسن وارتقت إلى ما لا يوصف إلاّ بالخلق العظيم " وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع " كما يقول صاحب التحرير والتنوير.
ومن تلك الأخلاق التي بلغت حدّ الكمال أنّه تجرّد من حبّ الذات الفردية، وكان يلتفت إلى قومه وما هم عليه، فيخاف عليهم أن تهلكهم الأثرة والعصبية، وهم يعلمون أنّه لو أراد أن يكون سيدا في دار الندوة لكان، ولكنهم كان يمشي بينهم مشية المتواضع فأحبوّه.
ولما اختصموا في شأن الحجر الأسود أيّهم يحمله ليضعه موضعه من الكعبة ارتضوه حكما فأشار عليهم بما أبرد غضبهم وأثلج قلوبهم، ونصح لهم أن يجعلوه في ردائه ويحملوه جميعا.
كانت حكمة بالغة جنّبت قريشا حربا في الحرم، تبيّن شمائل محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال بينهم شابا، ينزلون عند رأيه ويرضون حكمه لما علموه من رجاحة عقله وصائب حكمته.
وفي ذلك عبر أيّ عبر: إنّ الشيوخ وقد انغمسوا في طلب الجاه كادوا يقتتلون، وإنّ شابا أنقذهم من طيشهم. وما نال رضاهم إلاّ لما علموا أمانته وخبروا صفاء طبعه. ولو أنّ قريشا ردت كلّ أمرها إلى شيوخها وحدهم لأهلكتها عصبياتهم، وذلك مبلغ حالنا في أيامنا. غفرالله لنا.