إن تكن قريش قد رضيت من محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون حكما بين شيوخها، وهو لا يزال بينهم شابا طري العود، فإنّها قد شهدته في موقعين اثنين، فعرفت أنّه مجبول على نصرة الحقّ وبغض الباطل، وعلمت أنّ نفسه قد فطرت على إباء الظلم.
في الأولى نشبت حرب الفجار بين حيّيين من العرب، كنانة وقيس عيلان، في الشهر الحرام، فكأنّهم فجروا لمّا استحلّوا ما كان محرّما من قتال فيه وسفك للدماء. وما أنشبها إلاّ البراض الكناني الخليع الذي قتل عروة الرحال وساق لطيمته. وكذلك الحروب ينشبها الخليعون ويصلى بنارها الطيبون. واستحرّ القتل حتى بلغ البطحاء وكان بنو عبد المطلب من رجالها. روى ابن هشام في السيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" كنت أنبل على أعمامي،أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها".
وفي الثانية ماطل العاص بن وائل رجلا من زبيد ولم يرجع له ماله، فارتفع الزبيدي على جبل أبي قبيس ورجال من قريش يطوفون بالكعبة فنادى بمظلمته، فهبّ الزبير بن عبد المطلب وعزم على نصرته، وأيّده آخرون، ثمّ اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وأقاموا حلفا لنصرة المظلومين والأخذ على أيدي الظالمين ما أمكنهم ذلك، وقد شهد الحلف محمد صلى الله عليه وسلم، وظلّ يذكره من بعد.
وفي الواقعتين ما يوحي بأنّ السفهاء أمثال البراض والعاص هم الذين يفسدون على الناس الاجتماع الآمن وهم الذين لا تطيب لهم الحياة حتى يشيعون الفتن فيظلمون ويقتلون ويأكلون أموال الناس بالباطل.
وفي الواقعتين ما يوحي بأنّ بني عبد المطلّب لم يتغيّبوا عن الأولى فشهدوا الحرب لا حبّا فيها ولكن دفاعا عن الحرم وقد بغت قيس عيلان فأرادت أن تستحلّه، ولم يتخلّفوا عن نصرة مظلوم فأقاموا حلف الفضول.
وفي الواقعتين ما يوحي بأنّ الشاب محمدا صلى الله عليه وسلم كان في قلب الحدثين، ينبل أعمامه النبل في الأولى ويتعاهد على نصرة المظلوم في الثانية. وما فعل الأمرين إلاّ لأنّ نفسه جبلت على بغض الظلم وفطرت على نصرة المظلوم، فما أعظمها من نفس.
مصيبتنا –بعد الذي ادّعيناه من تحرّر- أنّ أمثال البراض والعاص هم من يملكون رقابنا، ومصيبة الإنسانية -بعد الذي تدّعيه من تحضّر- أنّها أقامت أحلافها على كتم أنفاس المظلومين وتركت أقوياءها يملأون الأرض جورا، فهل من منقذ لها؟